"الحلم البعيد" فيلم يتخطى الأسئلة التصنيفية

هو فيلم وحسب! عبارة تحسم الجدل الذي أثاره الفيلم المصري “الحلم البعيد” (85 دقيقة) لمخرجيه المصري مروان عمارة والألمانية يوهانا دومكه.
أن تسير وراء أحلامك البسيطة، وتسعى جاهدا لتحقيق آمالك التي تتمرّد على ضيق الأفق، في ظلّ ركود اقتصادي، واضطراب سياسي، وانقلابات تعيد تشكيل المنطقة، هذا ما أراد الفيلم تصويره في أجواء رمزيّة ومشاهد تبدو فوق واقعيّة تتناسب مع المكان الذي اختير ليكون مسرح الأحداث، بل الأحلام، في منتجع شرم الشيخ في جنوب شبه جزيرة سيناء.
كل شيء في الفيلم قابل للتأويل، لكثافة دلالات رموزه، بدءا بالمكان المشابه لمسرح كبير يضمّ ممثلين سرعان ما ينزلون من على خشبته حالما ينتهي العرض، أو لمدينة مؤقتة ركبت بيوتها الهشّة بهدف تصوير فيلم.
إنما المدينة-المنتجع المصمّم لاستقبال السيّاح وإسعادهم، وقبلة الشباب الطامحين للعمل ولحياة جديدة أو علاقات منفتحة، أضحت مدينة أشباح، يقصدها مجموعة شبان وشابات، رامي وعلاء وشوشة وحورية وروميو وتاكي (جايين من تحت) أي من مناطق مصرية مختلفة، وغالبا من الطبقتين الوسطى والدنيا.
تناقضات صارخة وسلسلة من المفارقات الساخرة بنيت عليها فكرة الفيلم، تجسّدها المشاهد وشخصية رمزية تعضد الأضداد، وتربط العناصر هي شخصية القرد برمزية الحلم والأمل، وقد تحيل إلى الإنسان البدائي الذي ينزع إلى التطور والارتقاء ليصير إنسانا بحسب نظرية “النشوء والارتقاء” لتشارلز داروين، فتقودنا إلى التساؤل عمّا جعل الإنسان يتطوّر؛ أليست أحلامه واستجاباته لتحدّيات الطبيعة؟
سكون في الخارج، إلاّ من هدير شاحنة تحمل في صندوقها دمية القرد المتكلّمة تلك، تجوب الشوارع الخالية من حين إلى آخر، إزاء اضطرام الهواجس للشخصيّات التي تستنطقها شخصية القرد.
واقع مخيّب وراكد مقابل أحلام بالتغيير والإنتاجية، راهن مقوّض للمدينة يُقابل ماضيا قريبا لها من التأسيس، ضياع تمثّله صحراء يعبرها الشبان ومرفأ أمان يمثله المنتجع، ومواظبة على ممارسة وظيفة في مؤسسة خالية من الزبائن؛ من شوشة التي تقدّم برنامجا ترفيهيا لكراس خالية من المتفرّجين، وحوريّة ترتّب غرفا خالية من النزلاء، وعلاء ينتظر من يقدّم لها خدمة تدليك، وتاكي يجهز “الدي جي” لأصدقائه وحسب، وروميو يلوّن جسده ويحمل قيثارة استعدادا للعرض، ولا أحدا يأتي..
التضاد مكوّن رؤيوي يحمله المكان نفسه؛ فهل شرم الشيخ ملتقى الفاسدين والمفسدين أم أنّه ملتقى الجنسيات والأعراق، وعلامة من علامات ما بعد حداثية من حياة وعلاقات منفتحة؟ ليس ذلك فحسب، بل إنّ اختيار فضاء مماثل يقترب من السريالية لتصوير الفيلم، هو محاولة للهروب من ثقل الواقع المأزوم للشخصيات.
وثمة تكافؤ فنّي في تماهيه بالعنوان “الحلم البعيد”؛ فالسريالية تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن، وهي حركة نفسية تلقائيّة بعيدة عن أي مراقبة تمارس عليها من قبل العقل، تستخدم أشياء واقعية، رموزا للتعبير عن الأحلام والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي.
من سمات هذا العمل السينمائي أيضا، الالتباس المتمظهر في تقنيات تنفيذه، وهدم الحدود الفاصلة بين الواقع والتخييل، وبين أسلوب تقديم مضمون توثيقي في قالب روائي، ما جعل الضياع ينسحب من الشخصيات إلى المشاهد المترقّب طوال مدة العرض إشارة تدحض شكّه وتثبّت حدسه في ما يتصوّره من تصنيف للفيلم، أتسجيلي هو أم روائيّ؟
والمشاهد ليس واحدا في التصوّر والقناعة، وإن كان غالبا ما ينطلق من موروثات فكريّة باتت مسلّمات برفض وجود مناطق رماديّة وحدود مائلة، بتعبير “التفكيكيّة”.
صراع التصوّرات نتيجة الصدمة الفنيّة غاية مرجوّة لأي منجز فنّي، ورؤية تحكم العمل، لعلّ هذا ما أراده مخرجا الفيلم عمارة ودومكه، بعيدا عن النمطية في الأداء؛ وخير شاهد لتفاعل الجمهور القلق مع منجز فنّي تمثله مسرحية “في انتظار غودو” (1953) حيث أراد كاتبها صموئيل بيكيت تسريب الضجر إلى المشاهدين وجعلهم يشعرون بعبثيّة الانتظار، “فلا شيء يحدث، لا أحد يجيء”. تقنية نزع الألفة عمّا هو مقبول، وخلق حالة تغريب لدى الذات لتوليد التناقضات لديها فتعيد النظر في مسلّماتها، هي تماما ما كان وراء الابتكار في التوليف بين الشكل الروائي التخييلي والموضوع التسجيلي الواقعي لشخصيات، أو ناس هذا الفيلم. “شاهد الفيلم، وبعد ذلك احكم عليه!”، جملة تعبّر عن رغبة المخرج مروان عمارة في تخطّي الأسئلة التصنيفيّة والأحكام النمطيّة وفق معايير لا تقبل حقيقة أخرى خارجها.
“الحلم البعيد” هو رابع عمل للمخرج، شارك في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الثامنة، وقد أثار جدلا بقدر ما حظي بإعجاب جمهور المهرجان.