الحريّة.. ولو انتحارا على جناح طائرة

في ليل الرابع عشر من أغسطس خرجت على عجل إلى صفحتي الخاصة في الفيسبوك لأكتب “لن تسمح واشنطن بسقوط كابول، إلا أن تقدّم طالبان باتجاهها سيعمل على عزل الحكومة المركزية بالتدريج ما يسمح بفرض شروط طالبان التفاوضية الجارية في الدوحة”.
الليل بتوقيت واشنطن هو بداية انبلاج الصباح في القسم الآخر من الكرة الأرضية حيث تقع أفغانستان، كانت كابول قد سقطت بأيدي طالبان وأُعلن عن مغادرة رئيسها محمد أشرف غني ومعه مئتا شخصية من قيادات الصف الأول في الحكومة الأفغانية المنهارة.
اليوم وبعد مضي عدة أيام على انقلاب الأمور في أفغانستان وقد آلت إلى دخول يسير لحركة طالبان إلى قلب العاصمة كابول المفرّغة من أعضاء حكومتها، لا أريد أن أتكهّن بأي سيناريو سياسي مستقبلي في البلاد، فالأمور ما زالت غامضة وقابلة للتأويل والاجتهاد ومن ثمّ الخطأ والتصويب في كلا النهجين؛ إلا أني أريد أن أفنّد ما يتقوّله البعض عن هزيمة الولايات المتحدة وخسارتها للحرب في أفغانستان إثر عشرين عاماً أنفقت خلالها تريليوني دولار على جهود تأسيس حكومة مدنية ديمقراطية تسوس البلاد وخسرت ما ينيف على 2500 مقاتل من نخبة مجنّديها وخبرائها العسكريين في حرب “مقبرة الإمبراطوريات”، ولم تفلح.
من هذا المنطلق أجد نفسي راغبة في التحدث عن الانتصار الأوحد الذي يمكن أن يحسب للولايات المتحدة خلال انخراطها العبثي في شؤون ذاك البلد الغارق منذ قرون في حروبه الأهلية، ألا وهو انتصارها للمرأة الأفغانية، وتنظيمها وإنفاقها على حملات التوعية والتمكين والدعم للنساء الأفغانيات بما يزيد على 800 مليون دولار قُدّمت على هيئة منح إلى المجتمع المدني النسوي لدعم تحرّر المرأة الاقتصادي والسياسي، وكذا تأكيدا لشراكتها كقوة فاعلة في الحياة العامة، والأهم من كل هذا تعليم الفتيات منذ الصغر بعد أن كن يحرمن من الخروج إلى المدارس والتعلّم أسوة بأربابهن الصبية.
وخير مثال على ما تقدّم هو ظهور بضع نساء في العاصمة كابول في اليوم الأول لسقوط العاصمة في أيدي طالبان، وبلباس محتشم ولكنه ليس البرقع والشادور الأزرق الشرعي كما تفرضه الحركة، وكن يرفعن شعارات تطالب بالحفاظ على مكاسبهن في التعلّم وحرية القرار والمشاركة السياسية، وهي مواقع تمتّعن بها في السنوات العشرين الأخيرة بدعم من الولايات المتحدة والعالم الغربي الحر.
جهودنا في الولايات المتحدة لحماية وتمكين الفتيات والنساء الأفغانيات ليست منّة لنا عليهن، بل هي أمر يقع في صميم التزامنا بحقوق الفتيات والنساء في كل مكان في العالم تعرّضن فيه للاضطهاد أو التهميش أو انتقاص الحق مهما تضاءل أو تعاظم. كما أن حرية نساء العالم هي جزء لا يتجزأ من حرية نساء الولايات المتحدة، وبالتالي فمن مصالحنا القومية العليا ومسؤولياتنا الأخلاقية دعم حقوق الإنسان في الحرية والديمقراطية والعدالة والتنمية المستدامة، والمرأة هي إنسان أولاً، وتشكّل نصف المجتمع الثري بالطاقات ثانياً، وبالتالي فإن “حقوق الإنسان هي حقوق المرأة أيضاً” (Women’s rights are human rights) وهو قول شهير لهيلاري كلينتون أطلقته في كلمتها التي ألقتها خلال حفل افتتاح مؤتمر الأمم المتحدة لدعم المرأة في العاصمة الصينية بكين العام 2015.
من نافلة القول إن المرأة الأفغانية وقعت فريسة نموذج غير مسبوق من العنف والتهميش والعزل خلال فترة حكم طالبان التي امتدت من العام 1996 وانتهت العام 2001 بدخول الولايات المتحدة البلاد لإسقاط حكمها الثيوقراطي إثر تعرّض العاصمة واشنطن ومدينة نيويورك للهجوم الأبشع والأعظم في التاريخ الأميركي الحديث، هجوم الحادي عشر من سبتمبر الذي شنّه تنظيم القاعدة، وكانت الحركة قد دأبت على إيواء وتدريب عناصر التنظيم على أرضها وفي مغاور تورا بورا.
ومنذ دخول قوى التحالف الغربي بقيادة واشنطن حقق الأفغان، رجالاً ونساء، مكتسبات عديدة في رحلتهم نحو الحرية والدولة المدنية والتعددية من خلال تضحيات الشعب الأفغاني الذي يتمتع بكل مقومات وكفاءات بناء حياة آمنة ومستقرة ومتطورة إذا ما أتيحت له الفرص، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة: إتاحة وتأمين الفرص.
من الخطأ الفادح أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن خارطة طريق واضحة للسلام في أفغانستان تحمي المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية ومستقبل النساء والفتيات
تعود طالبان اليوم لتختطف الساحة السياسية بتسارع منقطع النظير خفي على أعتى أجهزة المخابرات التي خانتها معلوماتها في إمكانية سقوط العاصمة وقد أمّنتها الحكومة الأفغانية بالآلاف من الجنود المجهزين بأحدث العتاد القتالي والدفاعي الأميركي، والمعززين بسنوات من التدريب المتواصل استعداداً لهكذا يوم أتى بأسرع ما توقع الجميع، ووقع كالصاعقة على الرؤوس.
ومع قطع الولايات المتحدة الفوري دعمها المالي عن البلاد إثر سقوط العاصمة، فإن أكثر ما يُخشى هو انقطاع شريان التنمية عما حققه الشعب الأفغاني من مكاسب تحديثاً وإغناءً لحياته المعيشية والاجتماعية. والخوف الأشد يقع على مكتسبات المرأة الأفغانية في التعليم والتمكين الاقتصادي ودمج النساء في عملية السلام من خلال إشراكهن سياسياً في مواقع اتخاذ القرار والقيادات وتأمين استدامة هذه الحال.
فمنذ الاتفاقية التي وقعتها الولايات المتحدة وحركة طالبان في التاسع والعشرين من فبراير العام 2020، تلك التي هيأت الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية مقابل التزامات من طالبان بعدم استخدام أفغانستان من قبل أي من أعضائها – أو غيرهم من الأفراد أو الجماعات الإرهابية – لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها، وصولاً إلى ليل الرابع عشر من أغسطس حيث الانسحاب الأميركي الفوضوي والمباغت حين أصبح مسلحو طالبان على أبواب العاصمة بعد أن فرغت السلطة الرسمية فيها وخلا القصر الجمهوري من أصحابه، إلى أن استولت طالبان على مقاليد الحكم وبدأت تعلن بشكل متفرّق وغير رسمي عن نيتها في تغيير النهج الذي اتبعته ما قبل العام 2001 ورغبتها في بناء دولة تستطيع أن تؤمن حياة كريمة لأبنائها وعلاقات طيبة مع جيرانها والعالم، مازلنا ننتظر والعالم أجمع ينتظر أن تقترن الأقوال بالأفعال في كابول الحزينة على أبنائها الذين تحولوا إلى أشلاء التصقت بعجلات طائرة أميركية وقد تشبثوا بها لمغادرة البلاد ولو انتحاراً في الفضاء طلباً لسراب الحرية.
وبانتظار التسويات السياسية التي وعدت بها طالبان يجب أن يعي الجميع أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بإشراك المرأة والمحافظة على مكتسباتها بعيداً عن أي محاولة لإعادتها إلى عهد الظلمات والتعنيف والإهمال. لذلك فإن تحقيق العدالة للنساء والفتيات الأفغانيات لا يقل أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة عن أهمية المحادثات الجارية لصياغة حكومة شراكة وطنية لا يتفرّد فيها الطالبانيون بمقاليد الحكم والقرار.
وسيكون من الخطأ الفادح أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن خارطة طريق واضحة للسلام في أفغانستان تحمي المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية ومستقبل النساء والفتيات، وتؤكد أهمية الحفاظ على حقوق المواطنة المتساوية التي يضمنها دستور البلاد ما لم تعطّله طالبان حين اعتلائها رسمياً سُدّة الحكم.