الحبيب الجملي رجل غامض تختبئ خلفه النهضة

فور اختيار اسمه لتولي مهمّة تشكيل الحكومة دارت حوله الكثير من الشكوك بخصوص العلاقة التي تربطه بحركة النهضة، لكن المفاجأة التي أطل بها على المشهد السياسي بإعلانه عن التشكيلة الحكومية الجديدة تركت كل التأويلات جانبا ودفعت إلى الواجهة بجدل حقيقي يؤكد محللون أن صداه سيظل ماثلا خلال الأيام القادمة حول الأسماء المقترحة ومدى استقلاليتها والارتباطات الحزبية التي تحرّكها؟ والأهم من ذلك؛ هل ستحظى بثقة البرلمان، وحتى وإن نالت هذه الثقة هل ستكون بأغلبية مريحة أم بأقلية لا تضمن لها حزاما كافيا لتمرير برامجها والمشاريع التي جاءت من أجلها، إن وجدت أصلا؟
كل هذه الأسئلة وغيرها أثارها رئيس الحكومة المكلف في تونس الحبيب الجملي الذي يصفه البعض بالسياسي الغامض، بينما يقول عنه منتقدون إن النهضة ضحّت به لتولي هذه المهمّة الشاقة. فيما يغمز شق ثالث يوصف بالمطلع على كواليس الحركة أن اختياره منذ البداية لم يكن محل ترحيب كلّي في شورى النهضة، وأن الرجل فتح شرخا واسعا داخل الحركة وزاد من منسوب صراع الأجنحة بدءا بالاستقالات التي ضربتها مؤخرا بخروج أمينها العام زياد العذاري، وليس انتهاء بعدة سيناريوهات تطبخ وقد يتفاقم صداها ويتزايد وقعها على الحركة في قادم الأيام.
الجملي رجل يثير العديد من التساؤلات في مشهد سياسي متشظ كالذي تمر فيه تونس، بإعلانه الأربعاء الماضي عن تشكيلة حكومية جديدة وصفها بحكومة كفاءات خالية من كل الأسماء الحزبية. فيما عارض منتقدون هذا الطرح ووصفوها بحكومة محاصصة حزبية بين النهضة وحزب “قلب تونس”، لكن الأهم بين هذا الرأي وذاك ما تطرحه بعض الوجوه الممثلة فيها من ارتباطات حزبية وشبهات تتعلق بالفساد.
جدلية التكنوقراط والاستقلالية
طرح التشكيل الحكومي الجديد تفاعلا كبيرا في تونس فور الإعلان عن الأسماء المرشحة لحقائب وزارية وتفاعل معه العديد من النواب ومختلف الفاعلين في المشهد السياسي بالشجب والاستنكار، ودعا الكثير منهم إلى عدم التصويت لها باعتبارها غير مستقلة ولا يمكن أن تكون مستقلة.
في عالم السياسة المتحرك يصبح كل شيء جائزا، خصوصا في تونس التي استعاد فيها الإسلاميون الحكم بعد انتخابات مفصلية أبقت على كل الوجوه السياسية المعروفة سالفا قيد الاحتجاز المشروط، نكاية بها وعقابا لمساراتها التي طبعت تسع سنوات من الثورة لم تجترح فيها حلولا واقعية ولم تقوَ على تقديم بدائل حقيقية للتونسيين. وإلا كيف يمكن الجمع بين عدة متناقضات لا يمكن الجمع بينها، أولا برئيس الحكومة المكلف الذي أثار الكثير من اللغط حول استقلاليته عن حركة النهضة، رغم إقرار قياديين من داخلها بأن الرجل لم يكن يوما مستقلا، ثانيا وهو الأهم أن الجمع بين الكفاءة والاستقلالية هو في حد ذاته محط جدل واسع داخل أطياف واسعة من الطبقة السياسية في تونس.
صفقة الحكم ما بين حركة النهضة وحزب "قلب تونس" الذي كان بالأمس القريب عدوا فأضحى اليوم صديقا مبجلا يتجلى فيها توافق المصلحة والضرورة الذي باركه الأقربون قبل الخصوم
الأساس في الطرح الذي سار فيه الجملي فور إعلان جميع الأحزاب عدم رغبتها في خوض تجربة الحكم مع النهضة، بغض النظر عن اشتراطاتها وسقوفها العالية ومراهقاتها السياسية، هو خيار خاطئ ومخاطرة، وحده رئيس الحكومة المكلف يتحمل تبعاتها ومن ورائه حركة النهضة. ذلك أن الأساس الذي أتى بالنهضة لتقود المشاورات وتكلف شخصا من داخلها لتولي هذه المهمة، لم تجد الحركة من بدّ عنه سوى باختيار شخصية من طراز الجملي للتحكم فيها من وراء الستار.
يجد هذا الكلام مسوغا له في إصرار الحركة على خيار الصمت منذ انفراط العقد الذي جمع الجملي بالعديد من الأحزاب ووصوله إلى طريق مسدودة في مشاوراته الأولى لتشكيل حكومة ممثلة من جميع الأحزاب. كان على الحزب الأول الفائز في الانتخابات ممثلا في النهضة أن يخرج إلى التونسيين ويعلن أن الأمر قد بات في يد رئيس الجمهورية الآن بعد وصول المشاورات إلى زنقة حادة، لكن النهضة آثرت هذا الطرح وربما بإيعاز منها دفعت الرجل للانتقال إلى الخطة “ب” التي يراهن الكثيرون على أنها كانت جاهزة.
يعيد سيناريو تشكيل الحكومة التونسية الجديدة، الذي يتفاعل حوله المشهد السياسي بحنق على حركة النهضة أكثر منه على رئيسها المكلف إلى الواجهة، سيناريو شبيها تماما بما حصل مع الحبيب الصيد في العام 2014 وشاءت الأقدار أن يحمل كلاهما نفس الاسم لكن بأطروحات ومقاربات شتى تظهر إلى العلن نسخة “مشوّهة” من حكومة كفاءات يرى البعض أنها حتى وإن حظيت بثقة البرلمان فإنها لن تعمّر طويلا طالما أن هذا لم يكن صائبا من الأساس.
مسار مرسوم مسبقا
يرى بعض المهتمين بسيرة الجملي أن الذين اختاروه للمهمة ورّطوه، لا بل إنهم أعطوا انطباعا حقيقيا عن غياب بدائل حقيقية لمرحلة كالتي تمر فيها تونس، ويبني هؤلاء تصورهم على أنه دفع بالرجل في المعمعة في سياق حسابات سياسوية ضيقة وأن الهدف هو إيجاد مخرج عبر طرق ملتوية للوصول إلى “حكومة كفاءات”.
على النقيض من هذا الطرح يذهب شق معارض ومستميت في الدفاع عن اختيار النهضة، إلى أن الحركة ربما أرادت أن تبرّئ ذمتها أمام أنصارها بأنها قدمت مرشحا مكلفا بتشكيل الحكومة، وأرضت من يرفعون الفيتو أمام قيادتها للحكومة، أي أنها أرضت الأنصار والخصوم في آن معا، لكن في مقابل أن يدفع الرجل من سمعته وكرامته الشيء الكثير.
ما هو مؤكد أن النهضة اختارت رئيس حكومة يستجيب أولا لمعيار الاستقلالية “المزيّف” الذي تحاول الحركة أن تناور به خصومها، وثانيا لضرب عصفورين بحجر واحد، وضع الرجل في الواجهة مع خيارات المشهد السياسي الملتبس، فإن أثبت جدارته في تشكيل الحكومة فيا حبذا، وإن فشل تكون الحركة قد برّأت ذمتها أمام خصومها. وهو السيناريو الأقرب إلى ما يشهده المشهد السياسي اليوم.
لا يحتاج التدقيق في سيرة رئيس الحكومة بحثا معمقا أو دراية واسعة بأدبيات الجغرافيا ولا الغوص في ثنايا التاريخ، بل تكفي نظرة بسيطة على محرك البحث لتعكس الحصيلة المهنية للمرشح الجديد لتشكيل الحكومة في تونس، فهو لا يملك سجلا حافلا في الشأن السياسي ولم يتقلد مناصب عليا في الدولة بمسمياتها المختلفة مما يطرح أسئلة محيرة حول قدرة الرجل على تحمل أمانة التكليف بما تعنيه الكلمة من عمق المعنى ودلالة التوصيف.
الجملي الذي ولد في العام 1959 يتحدّر من محافظة القيروان، حاصل على شهادة المرحلة الثالثة في الفلاحة ويعرف عنه تخصصه في إدارة المؤسسات الفلاحية. وقد تم تكليفه في خطة كاتب عام لدى وزير الفلاحة سنة 2011 في حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض واستمر بمنصبه حتى 2014. ويقال إنه كان من الوجوه المرشحة على حركة النهضة لتولي وزارة الداخلية في حكومة الحبيب الصيد.
حكومة مفصّلة
في وضع كالذي أفرزته الانتخابات التونسية غالبا ما تتجه أغلب القراءات السياسية إلى الشكل الحزبي المشتت الذي أنتجته داخل البرلمان، وهي نقطة مهمة لفهم استتباعات ذلك على المسار السياسي عموما ومنها تشكيل الحكومة التي انتهت إلى حكومة محاصصات بدل وصفها بالكفاءات.
فتحت الانتخابات على رئاسة البرلمان العديد من الأسئلة وتركت جرحا غائرا لدى عموم التونسيين، وخصوصا داخل القاعدة الشعبية لحركة النهضة، لتنتهي بإعلان زيجة وصفها المناصرون بأنها كانت ضرورة ملحة، كيف لا وهي من أوصلت زعيم الحركة إلى سدة الحكم في البرلمان، فيما استنكرها متابعون للمشهد السياسي وأقروا بارتداداتها على المشهد السياسي ومسار الحكم في تونس وأولها تشكيل الحكومة.
البعض يرى أنه كان على الحزب الأول الفائز في الانتخابات أن يخرج إلى التونسيين ويعلن أن الأمر قد بات في يد رئيس الجمهورية الآن بعد وصول المشاورات إلى زنقة حادة، لكن النهضة آثرت دفع الرجل للانتقال إلى الخطة "ب" التي يراهن الكثيرون على أنها كانت جاهزة
ظن أغلب التونسيين بعد الانتخابات أن التصويت العقابي سيكون فرصة للأحزاب الفائزة في التشريعية لمراجعة مواقفها وتطوير نفسها من الداخل لحصر التغول الذي سعت حركة النهضة إلى فرضه على مسار الحكم في تونس، لكن جاءت النتيجة معاكسة لتصورات الناخبين وكل الذين وضعوا ثقتهم في الأحزاب الصاعدة لتحجيم الحركة الإسلامية وصبر أغوار الانشقاق الذي يلفها من الداخل بين تيارين الأول إصلاحي والثاني أصولي براغماتي لا يرى غير التوافق سبيلا لمواصلة الهروب إلى الأمام والتنكر للبرامج الإصلاحية وكل ما يحتاجه التونسيون من نبش حقيقي في الملفات الحارقة.
أوحى هذا الانشقاق الداخلي للحركة بملامح استدارة لبعض الوجوه في الشق الأول والتي كانت تغمز من العديد من المنابر الإعلامية إلى التوافق باعتباره مخرجا للأزمة التي وقعت فيها حركة النهضة بعد انسداد جميع المنافذ أمامها حول شخصية يتوافق حولها الجميع لقادة الحكومة قبل اختيار الجملي. فيما نبّه الشق الثاني، بإدراك منه أو دونه، إلى مسار الانشقاق الذي يلف الحركة وأعطى إشارات لخصوم النهضة بأن الخلافات الداخلية لو خرجت إلى العلن ستكون حصيلتها الآلاف من الكتب وفق ما جاء على لسان القيادي عبداللطيف المكي.
لكن جميع هذه الرسائل تُركت جانبا، ولم تضيّع النهضة وقتها واتجهت مباشرة صوب الهدف بتعامل براغماتي أشد ما يوصف بأنه لا يحتاج إلى مناورة أو تكتيك عرفا عن الحركة الإسلامية طوال مسارها السياسي الطويل.
قطار الارتباك
حلّ توافق المصلحة والضرورة وباركه الأقربون قبل الخصوم بعقد صفقة الحكم مع حزب “قلب تونس” الذي كان بالأمس القريب عدوا فأضحى اليوم صديقا مبجلا دون مناكفات ووجع رأس. ومع هكذا إطار، ورغم التحفظات الكبيرة التي أبداها حزب “قلب تونس” على الوجوه الجديدة المطروحة في قائمة الجملي للحكم وإعلان رفضه المشروط لها، إلا أن مراقبين يرون أن ذلك لا يعكس حقيقة ما يطمح إليه قياديوه والمتحدثون باسمه مثله مثل النهضة. ورأى هؤلاء أنه على العكس تماما، فإن ذلك هو السيناريو لشريكي التحالف بنسخته الجديدة وأن التركيبة الحكومية الجديدة منقسمة بين قيادات تدين بالولاء للنهضة أو مقرّبة منها وأخرى مقربة من “قلب تونس”.
على الجانب الآخر، فإن الأكثر من الالتفاف السياسي الذي تساير فيه النهضة الجملي وتحريكها للأمور في الخلفية، بالمهادنة مع هذا الجانب أو التكتم عن ذاك الطرح، هي التصريحات المنفلتة لبعض قيادييها حول الرؤية للحل منذ تولي الرجل مهمة تشكيل الحكومة برمي الكرة في ملعب من يعتبرونهم خصومهم وأساسا حزبي التيار وحركة الشعب، يضاف إلى ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل. وحتى من تدخل طوعيا للإسناد ومحاولة جمع شتات الأحزاب المعنية خلال فترة المشاورات الأولى لم يسلم من التشكيك والشجب. يتجسّد هذا الكلام في ما أفصحت عنه القيادية بحركة النهضة يمينة الزغلامي التي قالت إن “تعطل المبادرة التي أطلقها جوهر بن مبارك والحبيب بوعجيلة تسبب في إرباك البلاد وإرباك رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي”. وأضافت الزغلامي “أنه في ظل حالة الإرباك لا يعدّ الجملي مكلفا من طرف النهضة”.
وبينما حاول الجملي تقديم جرعة من التفاؤل في كل تصريح صحافي أدلى به منذ توليه مهمة تشكيل الحكومة، تزايد رفع جميع الأطراف المعنية بالمشاورات لفيتو عدم المشاركة إمعانا منها في مزيد إحراج الرجل وإظهاره في صورة العاجز عن مسايرة الإحداثيات الكبرى المكونة للمشهد السياسي، ومحاولة توجيه عقاب جماعي لحركة النهضة المسؤولة الأولى عن اختيارها لوجه سياسي بسيرة متواضعة.
في الحقيقة يتحول رفض الدخول في تحالف حكومي مع النهضة، شيئا فشيئا إلى تكتل معارض سواء من الأحزاب أو الائتلافات التي كان الجميع ينتظر أن تكون في الحكومة الجديدة، لكن ما كشفت عنه التكتلات الأخيرة داخل البرلمان، الكتلة الديمقراطية الجديدة بين حركة الشعب والتيار الديمقراطي بـ41 نائبا الثانية بعد حركة النهضة، أظهر مفارقة عجيبة في تونس لأول مرة يلوح فيها الصراع والتنافس على المعارضة أكثر من الحكم.
ويبقى خيار الجملي ركوب قطار التحدي وتشكيل حكومة بهذه المواصفات، خيارا يضاعف من محنة تونس أكثر مما يضيف إليه شخصيا، خصوصا في ظل وضع إقليمي مضطرب وتحديات كبيرة تنتظر البلاد على عدة أكثر من جبهة.