الجيل القادم سيرفض آداب من سبقوه ويدين ما أورثوه من عواقب

المتأمل في الساحات الثقافية العربية التي تتشابه من قطر إلى آخر سيقف على إخلالات ما انفكت تتكرر وتتوارثها الأجيال، وبعيدا عن التوصيف العدمي اليائس فإن واقع الثقافة بحاجة إلى وقوف جدي يخلصها من عقود من الأوهام والممارسات التي لا تساهم إلا في زيادة التخلف. وهذا ما حاول تشخيصه الكاتب العراقي جمال حسين علي.
المغالاة في الحديث عن التحديات التي تداهم العصر والتسويق للنظرة التشاؤمية القاتمة عن المستقبل ملمح للأدبيات الفكرية المعاصرة وثيمة لموجة الأعمال الفنية والنصوص الديستوبية وما أشار إليه ألبير كامو في خطابه بالأكاديمية السويدية من أن هدف جيله ليس إصلاح العالم لأن ذلك دون ما يجب أن يقوم به، لافتا إلى أن مهمة أكبر تنتظره وهي منع العالم من تدمير نفسه. ويكشف عن القلق بشأن المستقبل المحفوف بالريبة.
يمضي الكاتب الإسباني ثيسار أنطونيو مولينا شوطا أبعد في التعبير عن هواجسه المؤرقة عن جودة الحياة حين يتساءل هل نحن بانتظار الهمجيين؟ أم أن الهمجيين هم نحن أنفسنا دون أن نعرف ذلك؟ إذا كانت الأحوال وصلت إلى هذا الحد من السوء فأين يوجد مصدر المواساة؟ هل يجب إطلاق رصاصة الرحمة على الأمل، ونذكر بما قاله فرويد من أن ما يبحث عنه المقهور من المواساة والتداوي لم يعد موجودا؟
خطر الثقافة
من المعلوم أن البصيص الذي يلوح في آخر النفق لا يمكن أن يرصده سوى أصحاب البصيرة الفكرية الذين قد يصعّدون النفس النقدي في النظر إلى معطيات الواقع، لكن هذا المنحى الانتقادي يحمي العقل من الخمول والتهاوي في دعة اليأس، ويخالف الروحية الانهزامية التي ما انفكت تؤكد أن ليس بالإمكان أكثر مما كان. إذن تقوم إرادة التغيير والمشاريع النهضوية على أرضية النقد ومناقشة الوثوقيات والتأمل في صحة المسلمات السائدة، وهذا ما تستشفه في آلية الكتابة لدى الكاتب العراقي جمال حسين علي.
تناول علي في كتابه “لماذا يكره المثقفون بعضهم؟”، الصادر مؤخرا عن “صوفيا”، ظواهر مهيمنة على البيئة الثقافية، كاشفا المواصفات النفسية لشخصية المثقف في أزمنة مختلفة. فالمؤلف يوافق الفيلسوف فريدريش شليجل في رأيه بأن الشيء الأكثر فائدة وسموا هو الثقافة. لكن هذا لا يعني الانسياق وراء كل ما يروج له تحت مسميات ثقافية ومعرفية. وفي الواقع إن ما يفتك بالعقل ليس الجهل بل توهم المعرفة حسب تعبير ستيفن هوكينغ. ومن الملاحظ أن هذا التوهم المتمثل في الألقاب الاستعراضية والاستعلاء الأجوف هو الغالب على الوسط الثقافي لذلك يتخذ صاحب “حبة بغداد” خطا تفكيكيا لتعرية الأوهام المغلفة بعناوين مضخمة.
الاعتقاد بأن الثقافة يمكن التعويل عليها للخروج من عنق الزجاجة مجرد استمرار لاجترار العموميات إذا لم تصحبه عملية التكنيس للقشور المتراكمة في الملعب الثقافي. لا شك أن هذه المبادرة تتطلب التنقيب عن العوامل التي تعمق الأزمة الفكرية وتقطع الطريق على انطلاقة العقليات الرائدة.
ويعلن جمال حسين، دون مواربة، في مستهل كتابه أن ما يهدد الثقافة ليس الإنترنت ولا التلفزيون أو السينما أو غير ذلك من الإحداثيات التقنية بل الثقافة نفسها هي الخطر حينما تقدم على نحو سيّئ وبالتالي يزداد الوضع قتامة، لأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، ولا يكلف أي طرف نفسه عناء الكشف عن الابتذال والضجيج الاستهلاكي.
ويرى المؤلف أن تقديم الثقافة وعرضها مسؤولية جسيمة ومما يكسبه حساسية في هذا التوقيت هو انهيار الكثير من المثل والتسابق على سحب الأضواء، فيما الكتابة تقتضي أن تبث فيها نفحات من روحك ودمك ولا ضير إذا كان اسمك مغمورا اليوم سيأتي من يحفر في جوف التربة وينصفك. ومن نافلة القول إن هذه النبرة تعيد إلى الهموم الثقافية قيمتها وتسبغ عليها ديمومة وأصالة، بالتأكيد الثقافة بنسختها هذه قد تكون جبهة أمامية لحماية القيم ودحر التفاهة، فالتقاعس عن القيام بمؤازرة العمل الثقافي يفسح المجال لانتشار الأفكار الموبوءة.
يشير جمال حسين إلى أن إيطاليا كانت ترزح تحت وطأة الحرب والاغتيالات لمدة ثلاثين عاما، ولكن في غضون هذه الأيام الدامية اختمرت المواهب وظهر مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وارتسمت بوادر عصر النهضة في الأفق، هنا من المناسب أن نضيف تجربة مدينة بيروت التي وقعت بين تقاطع نيران الأطراف المتناحرة، ومع أن شرارة الحرب قد طالت كل مفاصل الحياة وحولت المباني إلى أنقاض اتخذ الفنانون هذه الأماكن صالات لعرض اللوحات الفنية.
لا تستعاد تلك الوقائع للإبانة عن صمود هذه المدينة فحسب بل الغرض من ذلك هو التذكير بأن الثقافة هي جوهر الهوية الإنسانية. إذن المعاناة عنصر أساسي للتفجر الإبداعي. يقول الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه بأن وراء كل عمل إبداعي عظيم توجد آلام مبرحة. بدوره يفسر جمال حسين نبوغ أفلاطون وفتوحات كانط الفكرية واختراقات غوته الإبداعية بعدم وجود ما يشفي غليل هؤلاء في الواقع وعدم تحقيق الرغبات. وتؤكد التجارب المشار إليها أن الخلاف مع العالم والسير على عكس تياره الرتيب هما محرك للإبداع ونسف للأعراف المؤطرة، وبذلك يكون الانشقاق عن الجوقة مؤشرا على التثوير الفكري.
الضمور الإبداعي
ما يؤدي إلى الانتكاسة في الإبداع ليس التدني في الذوق أو ندرة المواهب بل تكمن أسباب هذا التراجع في ضمور القيم والمثل العليا وسوء الاستغلال للكثير من وسائل النشر وبث المحتويات السطحية، وهذا ما يسميه الكاتب “جرائم فكرية” يقترفها الجموع بحق الجيل تلو الآخر.
تفوق مخاطرُ من يقرأ خطأ مخاطرَ من لا يقرأ ولا يمت بصلة إلى الكتب. على هذا المنوال يواصل المؤلف تقويض الصورة النمطية عن المثقف والمبدع والقارئ. وعلى الرغم من إيمانه بتأثير الأدب والفن في تصحيح الأخطاء وتنظيف الرأس من دخان الأوهام فإن لا شيء يضاهي الحياة في زخمها وقوتها المتجددة.
ويفرد جمال حسين علي قسما من كتابه لموقع المحرر الثقافي ومشاركته في ترتيب المشهد وتقليم النصوص من الحشو. غير أن المحرر يتوارى في الظل ونادرا ما يكشف عن الأسماء التي ساهمت في طبخة النصوص الأدبية. ويعرف الجميع صاحب “يولسيس” لكن لا يذكر اسم المحرر الذي انهمك أشهرا طويلة في قراءة النص المكتوب بنفس ماراثوني وأجرى في الرواية أكثر من ألفي تعديل. وربما يكون الأمر مفاجئا إذا قلنا بأن محرر “أرض اليباب” هو عزرا باوند، وعليه فإن التساؤل لا يغيب عن الحدود التي تمتد بين المؤلف والمحرر والعالم المحيط.
ويلتفت الكاتب إلى مستقبل الثقافة متتبعا الأرضية التي يتجاور فيها الحس العلمي والأعمال الروائية. ومن المعروف أن استشراف المستقبل هو مجال حيوي لعدد من النصوص الروائية ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى “1984” لجورج أورويل و”نحن” ليفغيني زامياتين و”عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي. يتنبأ جمال حسين بأن الجيل القادم سيرفض الأدب الاسترشادي الذي يلقنه طرق الخير والشر. كما يدين العواقب البيئية والسياسية الوخيمة التي سيرثها من الأسلاف.
يشار إلى أن المؤلف إضافة إلى تمكنه من الإبداع الروائي وتذوقه العالي بالفن له خلفية بعلوم دقيقة ومجال تخصصه الأكاديمي الفيزياء، لذا فإن البصمة العلمية واضحة في أسلوبه المعبر عن منطق تفكيره وما يراه ضروريا في هذا المفترق المصيري هو “علم وجود جديد” يمنح العالم فرصة لالتقاط الأنفاس والتبصر بآليات فعالة لمواجهة الاختناقات العقلية والسياسية وفي سياق متابعته لتمثلات الثقافة في الحياة البشرية.
يفتح صاحب “كتاب الناس والعالم” قوسا على مفهوم الثقافة المقاومة موضحا بأن الفن والإنسان هما جوهر الثقافة وتأتي القضية في المرتبة التالية، لأنه يصعب على المرء إسداء الخدمة لقضيته بأساليب فنية ضعيفة. وتتوارد في هذا الجزء أسماء رموز ثقافية من عدة بلدان منها فلسطين وإسبانيا وأفغانستان وتشيلي.
ما يهدد الثقافة ليس الإنترنيت ولا التلفزيون أو السينما أو غير ذلك من الإحداثيات التقنية بل الثقافة نفسها
هكذا لعب الأدب دورا كبيرا في حماية الهوية بمناطق منكوبة بالحرب والكوارث والحملات الاستعمارية، ومن الظواهر التي لا يسكت عنها المؤلف السرقة الثقافية إذ يقدم لمحات عن جذورها في التاريخ القديم قبل أن يسرد بالتفصيل حيثيات سرقة روايته “أموات بغداد” وتدويرها بحلة جديدة للجمهور.
ما يذكره جمال حسين علي عن تعرض عمله الروائي للسرقة وصعود المنتحل لنص غيره إلى منصة النجومية يضع الوعي النقدي وحتى وظيفة القارئ أمام أسئلة جوهرية، كما يعيد إلى واجهة النقاش موضوع مشاعية الكتابة الروائية وغلبة العقلية الاستسهالية في اقتحام معترك الرواية، إذ يتعامل البعض مع الموضوع باعتباره فرصة للعودة إلى مسرح الأضواء بعدما انتهى به المطاف إلى التقاعد من المنصب السياسي المدرار للمكسب. وهذه الموضة قد توقف عندها الباحث عبدالجبار الرفاعي في كتابه الموسوم بـ”مسرات القراءة ومخاض الكتابة” عادا الهوس بكتابة الرواية في الهزيع الأخير من العمر استخفافا بالإبداع.
رافق عصر التنوير نشوء مفهوم الأنتلجنسيا وحل رجال الفكر مكان الكاهن وانتقلت وظائف الأخير من إصدار الأحكام والقول الفصل في المسائل الخلافية إلى المثقف، وأصبح هذا المصطلح الجديد رديفا للقداسة العلمانية والروحانية الحداثوية. ويرغب المثقف في الاحتفاظ بقداسة رجل الدين ببزة علمانية. ومن البداهات التي قد لا تحتاج إلى التذكير أن الثقافة قد تم تطويعها لأغراض غير نزيهة تماما كما كان الأمر بالنسبة إلى الدين، لذلك لا يستبعد الكاتب أن يكون المثقف متعهدا بنشر ما يخدم مصالحه الشخصية.
واصطدم جمال حسين علي بالعاهات المستفحلة في الوسط الثقافي مستبطنا سايكولوجية المثقفين، ولعل أكثر ما يستغربه المتابع أن المثقف يكن الكراهية للمسؤول السياسي ويهاجمه، ولكن يتملق له ويرحب بأن يكون ضمن فريقه الاستشاري. كما أن هذا الكائن الثقافي يسرف في الحديث عن نفسه بحيث إذا حظر عليه الكلام عن مآثره في اللقاءات الصحفية سينتهي اللقاء في ثوان معدودة. ويرتاح أغلب المثقفين للاندماج في العصابات والشللية والمحميات وهذا ما يزيد من مستوى التلوث الفكري.
يطرح جمال حسين السؤال عن دور الناقد الأدبي وجدارته بالصعود على أكتاف النصوص الإبداعية، مشددا على أن النقاد لا يملكون الموهبة ومشكلتهم هي مواصلة التدجيل والتضليل. وأحسن من كتبوا عن القصة والرواية والشعر هم الأدباء أنفسهم وليس النقاد. قد يبدو للقارئ أن مؤلف الكتاب غارق في السوداوية، وفقد ثقته بدور الفكر والثقافة، وفي الحقيقة إن ما يصبو إليه جمال حسين علي ليس إعلان نهاية القيم الثقافية والفنية بقدر ما يهمه تشخيص مكامن الخلل وأعراض الأوبئة الفكرية والتأكيد بأن الأشخاص الذين خدموا البشرية لم يكونوا حاملي الألقاب والديباجات.