الجهود البشرية حولت التبريد إلى منتج استهلاكي ومحرك للبحث العلمي

يتيح كل من "برد" و"نار" الفرصة لطرح التساؤلات عن الشروط البشريّة، والظروف الصناعيّة التي يمكن توليدها لاستمرار الحياة.
الأحد 2018/05/27
تحولات الشجرة عبر الفصول

اصطلح العلماء درجة حرارة -273 كلفن، بوصفها أدنى درجة يمكن الوصول لها، وسموها الصفر المطلق، وتكمن أهميتها أنها لا تقتصر فقط على “البرودة”، بل تتوقف عندها حركة الذرّات ضمن الجزيء نفسه، وكأن الزمن يتوقف حينها، أشبه بلحظة لانعدام الحياة، حيث تنهار الروابط الذريّة، ليسود سكون كليّ على الموجودات، إذ لا عودة من بعد هذه الدرجة النظريّة، وكأنها عتبة نحو سديم، لا يحوي إلا الثبات، كهوة تبتلع كل موجود، وتنفي حركته الجوهريّة.

تستضيف مدينة العلوم والصناعة في العاصمة الفرنسيّة باريس إلى جانب معرض “نار”، معرضا نقيضا له، باسم “برد”، المميز فيه، أنه لا يتناول فقط الثلج أوالجليد الطبيعيّ الذي نراه في القطبين، بل يركّز على البرد الصناعي، الذي يولّده البشر، والمرتبط بالتطور التقنيّ، وآليات خَفضِ درجة الحرارة، فالمعرض الذي ندخله من ممر يشبه ميزان حرارة، يستعرض لنا تأثير البرودة على الكائن البشري والأحياء من حوله، إلى جانب الجهود الصناعية والمخبرية لتوليد “البرودة”، وتوفيرها ضمن الحياة اليوميّة والمساحات الصناعية.

يحضر البرد بوصفه تحدّيا للكائنات الحيّة بأنواعها، لنكتشف كيف تأقلم بعضها معه بما يضمن نجاتها، بعكس البشري، الذي لا يستطيع النجاة في ظل الظروف القاسيّة للبرد، إذ يتيح المعرض للزائر أن يختبر افتراضيا درجة الحرارة المنخفضة، ضمن غرفة خاصة، نشاهد فيها عبر أجهزة قياس مختلفة، كيف يتفاعل جسم الإنسان مع البرودة، وخصوصا أن الماء الذي يحويه الجسد البشري بنسبة كبيرة، هو الأكثر تأثّرا بالبرد، ذات الشيء نراه في مجموعة من أوعية الحفظ المصغّرة، التي تتيح لنا تتبع التغيرات التي تطرأ على شجرة في الفصول المختلفة، وكيف تتفاعل مع درجات الحرارة المختلفة.

وردة متجمدة
وردة متجمدة

يقدّم لنا القسم الثاني من المعرض مفهوم التبريد، والجهود البشريّة لإنتاج هذه الظاهرة الطبيعية ضمن الحياة اليوميّة، وتقنينها لمنفعة البشر، فاختراع البراد المنزلي، جعل “البرد” ديمقراطيا، ومُلكا للجميع، كما نتعرّف على آلية خفض الحرارة باستخدام الغاز، وتطبيقاتها في الصناعات والعلوم الطبيّة للحفاظ على الأعضاء والكائنات الحيّة، ونتتبع أيضا دور التبريد في الصناعات الغذائيّة، وكيف تشكّل مفهوم التخزين، وخصوصا تقنية التجميد، التي ساهمت بتغيير سلوكنا الاستهلاكي المرتبط بالغذاء، لكن ما يغفله المعرض، هو السياسات التي تتحكم هذا “التبريد”، بوصفه محرّضا على الاستهلاك السريع والمستمر، بحيث يُحكم الفرد بمدة الصلاحيّة، بوصفها عتبة “التسمم”، المصنّعة خصيصا كي تهدد صحة المستهلك، إثر تغيّر الخصائص الفيزيائيّة للطعام.

ندخل نهاية قسما يشبه المخبر الطبيّ، مجهّزا بصورة تتيح لنا اكتشاف “البرودة” كجزء من البحث العلميّ، وخصوصا الآليات المختلفة لفهم درجة الصفر المطلق، ومحاولات الوصول إليها، كما نتعرف على خطورة انخفاض درجة الحرارة صناعيا، وخصوصا التجارب التي تطبّق على الغازات، والتي لا بد من التعامل معها بحذر ودقة، فأيّ خطأ بسيط، قد يؤدي للتجمد الآني، إذ نرى في تجهيز تفاعليّ، كيف تتغيّر طبيعة وشكل المواد المختلفة، إن أُلقيت في مستودع يحوي غاز الآزوت بدرجة حرارة -196 سيلسيوس، إذ يمكن للزائر، بالتعاون مع مختصّين إجراء تجارب بسيطة، لاختبار تأثير البرودة الشديدة على ما حولنا من أغراض، كوردة، أو قطعة حلويات.

يتيح كل من “برد” و”نار” الفرصة لطرح التساؤلات عن الشروط البشريّة، والظروف الصناعيّة التي يمكن توليدها لاستمرار الحياة، وخصوصا أن الكثير يؤمنون بأن الأرض وصلت إلى درجة من الخراب، لا يمكن إصلاحها، بالتالي هل يمكن للبشر استعمار كواكب أخرى وتوليد شروط مناسبة لحياتهم كما نرى في أفلام الخيال العلميّ، أم أن الشرط البشريّ مستحيل التحقيق إلا على الأرض؟ ما يجعل الجهود البشريّة ليست إلا تخريبا مُمنهجا لشرط مثاليّ ما، عصيّ على التحقيق مرة أخرى.

محاولات لتلمس البرد
محاولات لتلمس البرد

 

14