"الجمعة الأخيرة" إطلالة واقعية سوداء على علاقة المال بالرجولة

يحيى العبدالله مخرج الواقعية الجديدة يصور حكايات الطبقة الوسطى.
السبت 2023/10/14
سيناريو مرتبك لموضوع مهم

تبدو الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية متشابهة، فحتى تداعياتها على منظومة القيم لا تختلف كثيرا، والطبقة الوسطى هي الأكثر تأثرا بكل التغيرات الاقتصادية، وما يمكن أن يحدث لمواطن في الأردن قد يصيب آخر في أي مكان. هذا ما يركز عليه فيلم “الجمعة الأخيرة” الذي يقدم إطلالة واقعية سوداء على الرجل في المجتمعات العربية.

في فترة اتسمت باهتمام عربي واسع بالثورات الاجتماعية التي لقبت فيما بعد بثورات الربيع العربي، تلك الثورات التي هزت أنظمة وأدخلت دولا في دوامة من العنف، اختار المخرج الأردني يحيى العبدالله أن يعود بكاميرته إلى مفهومين مهمين في المجتمع ومسؤولين عن التغيرات الحاصلة في أنماط التفكير، هما المال والرجولة، ومدى ارتباطهما ارتباطا وثيقا بعصر طغت عليه المادة وغيرت الكثير من المفاهيم.

“الجمعة الأخيرة” هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الأردني يحيى العبدالله، وهو كاتب السيناريو أيضا، رأى الفيلم النور لأول مرة عام 2011، وهو يعرض خلال هذه الفترة ضمن التوجه الجديد لقناة “روتانا سينما” التي اختارت تسليط الضوء على السينما المستقلة وعرض الأفلام المنجزة خصيصا للمهرجانات.

والعمل من بطولة علي سليمان وياسمين المصري من فلسطين ونادرة عمران وفادي عريضه ولارا صوالحة من الأردن، وتم تصويره في مناطق متباينة من العاصمة عمان وبالذات في جبلي عمان والجوفة وعمان الغربية.

الفيلم تسوده المشاهد السوداوية، ويمكن تصنيفه ضمن السينما الصامتة؛  فأكثر من 70 في المئة منه لقطات حركية
الفيلم تسوده المشاهد السوداوية، ويمكن تصنيفه ضمن السينما الصامتة؛ 

فأكثر من 70 في المئة منه لقطات حركية

يحكي الفيلم قصة يوسف، أربعيني أردني يعمل مدير مبيعات لكنه يخسر وظيفته ويتحول إلى سائق سيارة أجرة في الليل، ويكتشف فجأة أنه يعاني من مشاكل في الخصية تضطره إلى الخضوع لعملية جراحية خطيرة خلال مدة أقصاها أسبوع، لكنه لا يملك تكاليف العملية الباهظة فيضطر إلى اللجوء إلى طليقته التي انفصلت عنه بسبب فقدانه لوظيفته جراء الأزمة الاقتصادية العالمية، وابنه ذي الأربعة عشر عامًا، ورغم احتياجه إلى المال يلتزم بعدم رغبته في الإفصاح عما يعانيه.

يؤدي دور البطل الممثل علي سليمان، وهو منذ لحظات الفيلم الأولى يدخلنا في لامبالاة كبرى، فهو غير مبال بالأزمات الكثيرة من حوله، ولا يهتم إلا بأزمة “قدرته الجنسية”. ويؤكد بكلماته القليلة وحركاته وتعبيراته، التي تركز عليها الكاميرا بدقة، أن الرجل في المجتمعات الشرقية لا يهتم إلا بالحفاظ على ماله وقدرته الجنسية، وأنهما مفهومان أو إن صح التعبير قيمتان مترابطتان ترابطا وثيقا وهما اللتان تحددان قيمة الرجل، فهو عندما خسر المال خسر زوجته وحياته وفقد قيمه وانساق نحو سلوكيات لاأخلاقية مثل السرقة، وبسبب غياب المال صار عاجزا عن معالجة نفسه.

تكمن المفارقة هنا في أنه في الحالة الأولى لم يسع إلى تغيير وضعه وإنما كان ينظر إلى كل الخراب المحيط به نظرة لامبالية، في حين أنه تحرك مسرعا لإيجاد حل ينقذ قدراته الجنسية، واعتبرها همزة وصله الوحيدة بالحياة وبغيابها يصبح أشبه بالميت الذي يزوره منذ بداية الفيلم في المقابر.

يأتي الفيلم بمشاهد سوداوية، يسودها الصمت، ويمكن تصنيفه ضمن السينما الصامتة، فأكثر من سبعين في المئة منه لقطات وتفاعلات حركية فقط بينما المشاهد التي تحاور فيها الممثلون تعد على أصابع اليد الواحدة. ويبرر المخرج ذلك بأنه يميل إلى السينما الصامتة، بتقديم قصص يمكن أن يعيشها أيا كان. وهو في “الجمعة الأخيرة” يقدم قصة تصلح لأن تكون لأي شخص يعاني الفقر أو يعاني جراء أزمة مالية.

ويؤكد المخرج منذ بداية أعماله السينمائية أن الصمت في السينما لغة مختلفة وإن أحدثت اضطرابا وتوترا في نفس المشاهد، فاللغة السينمائية القائمة بالأساس على الصورة قبل كل شيء تمنح المشاهد فضاءات للتأمل وتجعله طرفا في تفاصيل الحياة اليومية ومنتبها لأغلب لقطات الفيلم عوض تركيزه على الحوار، كما تمكن المخرج من تخطي حاجز اللغة أثناء عرض الفيلم خاصة في المهرجانات غير العربية.

ويطرح المخرج، الذي يصنفه النقاد ضمن مخرجي الواقعية الجديدة، باختصار مفهوم الأمن في المجتمعات العربية، والذي تراه السلطة مختصرا في الأمن العسكري بينما تؤكد الشعوب أنه يكمن في قدرة الأنظمة على حماية الطبقة الوسطى من الانهيار، وبالتالي انهيار منظومة القيم والمبادئ.

بمشاهد مطلة على عمان الشرقية وأخرى تدخل البيوت “المفقرة” والأحياء المهمشة، وتعاين السيارات وأوضاع العمال وأساليب الغش وغلاء الأسعار غلاءً مفرطا، كشف يحيى العبدالله ملامح الطبقة الوسطى التي تحمل معايير أخلاقية أكثر تأثرا بالأزمة المالية. وتمكن في ثمانية وثمانين دقيقة من أن يجيب عن سؤال: كيف يمكن لاتساع دائرة الفقر أن تدمر القيم الاجتماعية وقيمة العائلة وتماسكها وتغير نظرة الإنسان إلى مجتمعه؟

وفي حين أنه صور الرجل لامباليا، ولا يهتم إلا بذكورته، أصر المخرج كما في أغلب أعماله على إظهار المرأة بصورة قوية مستهترة، تدرك نقاط ضعف الرجال وتسخر منهم ومن أفكارهم، وقد سبق أن شدد على أنه يحب أن تكون أعماله مساحة لتصوير المرأة العربية القوية؛ ذلك ما يظهر فعلا من حضورها في هذا الفيلم سواء ضمن المشاهد التراجيدية أو في نظيرتها الكوميدية البسيطة.

كما سلط الفيلم الضوء على العلاقات الهشة بين الآباء والأبناء، من خلال علاقة يوسف بابنه التي طغت عليها المصلحة المادية وخلت من أي مشاعر أو تقارب فكري وأي محاولات للقرب، تعمد المخرج إظهارها عبر اللقطات والزوايا التي تجمع الشخصيتين.

المخرج، الذي يصنفه النقاد ضمن مخرجي الواقعية الجديدة، يطرح باختصار مفهوم الأمن في المجتمعات العربية

ورغم أنه تمكن من إيصال فكرته إلا أن الفيلم بإيقاعه البطيء ومشاهده المكونة من لقطات واحدة غير مترابطة، جاء بسيناريو مرتبك وبتوزيع غير محكم للحوارات، وبلقطات غير مفهومة، تجعل بداية الفيلم غامضة ولا يمكن للمشاهد فك شيفراته أو فهم فكرته العامة.

يذكر أن فيلم “الجمعة الأخيرة” الذي أشرفت على إنتاجه الهيئة الملكية للأفلام تحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة أفضل ممثل وجائزة الموسيقى التصويرية للإخوة جبران من فلسطين خلال مهرجان دبي السينمائي عام 2011، كما حصل على أربع جوائز في مهرجان سان سباستيان الإسباني.

والعمل مستوحى من فيلم “العشاء الأخير” للمخرج الأميركي دان روزين الذي يحكي قصة اجتماع خمسة طلاب يساريين على العشاء وتبادل وجهات نظرهم المختلفة وآرائهم في القيم وسطوة رأس المال. وشاركت فيه مجموعة “تريو جبران” التي وضعت الموسيقى التصويرية الخاصة بالفيلم.

يذكر أن يحيى العبدالله ولد عام 1978 في ليبيا، ونشأ في المملكة العربية السعودية.

أنجز ثمانية أفلام قصيرة، بالإضافة إلى كتاب نقدي بعنوان “الاغتراب”، وهو دراسة تحليلية للشخصيات الروائية في أعمال الطاهر بن جلون. أنجز كتابة وإخراج ثلاثة أفلام لاقت إشادة دولية، قبل أن يحصل على درجة الماجستير من المعهد الدولي للسينما في فرنسا. وله العديد من الأفلام التي شاركت في مهرجانات عربية ودولية.

14