"الجسد الغريب" فيلم فنزويلي يتداخل فيه الوثائقي مع المتخيّل

عبر تاريخ السينما استغل البعض المصابين بالإعاقات لإثارة الضحك، فيما رسّخ البعض الآخر صورة الجسد المكتمل على امتداد للتاريخ الإنسانوي، الذي يرى فيه وحدة عضوية مغلقة ذات معايير ثابتة تحدّد ما هو طبيعي أو مثالي، ومع التطوّر الفكري، بدأت التصنيفات الطبية والسياسية تتفكك، لتغدو السينما وسيلة لكشف مساحات الهيمنة الثقافية، وإعادة تعريف ما هو طبيعي بوصفه وهما ونظاما سياسيا قمعيا.
شهد مهرجان تورنتو للأفلام هذا العام العرض الأول للفيلم القصير “الجسد الغريب” (18 دقيقة) للمخرج الفنزويلي هيكتور سيلفا نونيز، ونشاهد فيه قصة خايرو، التي يتداخل فيها الوثائقي مع المتخيّل، فالشاب الذي ولد دون حلمات، يعاني من نفي أسرته له، إلى جانب التباس هويته عليه، هل هو ذكر أم أنثى، أم تصنيف جديد بينهما؟ وخصوصا أن هذا “العيب الخلقي” تحوّل إلى هوس يطارده، جاعلا حياته تتلخص في رغبته بالظهور عاري الصدر، وفهم جسده وعلاقته مع الآخر، سواء كانت هذه العلاقة حميمية أو يومية.
وتفترض المقاربة الإنسانوية وجود صورة مثاليّة للجسد، ذي الخصائص والأعضاء المشتركة لدى الجميع، سواء كان الفرد ذكرا أو أنثى، وتم تبني هذه “الصورة” طبيا وسياسيا وثقافيا، ما جعل المصابين بعيوب خلقية عرضة للاضطهاد والنفي، بل إن هذه السياسات تمتد لتمارس ضد المختلفين شكلا وسلوكا، كما في العنف الموجه ضد المثلية الجنسية، ونفي المصابين بالبهاق في بعض الأماكن، وتصميم سياسات تعادي المتحوّلين جنسيا، ويكفي أحيانا تعديل طفيف، ليولد الاستثناء، كحالة خايرو الذي ترفض أسرته مقابلته، ولا ينجح في الفحص الطبي للعمل في مخزن، كونه يعتبر “مختلفا” وقد يتسبب في مشكلة لصاحب العمل.
الاختلاف الطفيف الذي يحويه جسد خايرو يهدّد وجوده كفرد في المجتمع، إذ نراه حائرا ومترددا في علاقته مع جسده، فهو يسعى للكمال المتخيّل، ويخفي اختلافه دوما، حتى في أشد اللحظات حميمية مع صديقته، التي يكون فيها جسده لحما جاهزا للاستثارة، يتساءل عن جدوى الحلمات المذكّرة، هل تولّد اللذة، أم هي مجرد أعضاء نافلة؟ ليحيل الفيلم إلى مفاهيم اللذة والاستثارة وعلاقتها مع صورة الجسد المُشتهى، لنرى أنفسنا أمام مشهد يحاكي أداء إنتاج اللذة، دون أي أثر، كما في معالم وجه خايرو، الذي لا يشعر بشيء حين تتلمس وتقبّل حبيبته صدره الخالي من الحلمات.
ويتحوّل جسد خايرو خلال الفيلم من موضوعة ثقافية منفية من قبل أسرته، إلى موضوعة حميمية هشة صعبة الاستثارة، لنراه لاحقا حاضرا في أشدّ السياقات التي يتعرض فيها الجسد للنمذجة والقياس والتعديل، وهي العيادة الطبية، حيث يتسلل خايرو إلى عيادة طبيب تجميل ويكشف له عن صدره، هناك يتحوّل إلى موضوعة طبية مثيرة للاهتمام أو برهان على حقيقة التطور حسب كلام الطبيب، ويتحوّل أيضا من فرد، إلى واحد من الثديات، التي تستغني عن بعض الأعضاء الجسدية في حال لم تستخدمها.
هشاشة خايرو أمام المؤسسة الطبية، تنعكس في رغبته بأن يصبح لديه حلمتين، لا أن يكون مجرد تمثال بلاستيكي قابل للاستنساخ آليا، فهو لا يهتم بالألم الذي قد ينتج عن زراعتهما، وكأن الحلمات النافلة علامات على الإنسان، وانتمائه للسلالة البشرية. ويريد خايرو أن يشعر بحلمتيه، وأن يعلم ماذا يعني أن يمتلكهما، وهنا تحضر العلاقة بين شكل الجسد وتخيل المرء عن ذاته، والعنف الذي يتعرض له المتحوّلون جنسيا، كون داخلهم لا يتطابق مع خارجهم، وكأن الزيادة والنقصان الجسديين موضوعات سياسية، وليست خيارات شخصية، فخايرو مثلا، يقول بوضوح للطبيب، أريد أن أكون “طبيعيا”.
ونشاهد في الفيلم خايرو كرجل خفيّ أحيانا، لا يظهر علنا، هو مهدّد دائما، لكنه ذو أحلام بسيطة، إذ يقول إنه يتمنى بأن يكون على الشاطئ بصدر عار، دون أن تلاحقه النظرات أو كلمات الاستهزاء، لكن في عيادة الطبيب الذي يريد أن يجري له عملية زراعة حلمات، نشهد التناقض بينه وبين شخص آخر، يريد التخلص من جزء من حلماته كونه مصاب بالتثدّي الذكوري، إذ يقفان بمواجهة بعضهما البعض، كلاهما حالتان طبيتان استثنائيتان، لكن ثقافيا كلاهما منفيان وعرضة للسخرية، وهنا يمكن أن نقرأ خصائص اللحم البشري ضمن العيادة، هو مساحة للتجريب كي (يرتقي) الجسد إلى الشكل المثالي، ويطابق الصورة السياسية، التي توظف الطب كوسيلة للتقنين وضبط الشكل.
ونقرأ في الفيلم تجليات سياسات الاستثناء والعزل ضد أولئك “المختلفين”، اختلاف بسيط يكفي كي يهمش الفرد وينفى، وفي حالة خايرو العيب غير مرئي، لكن التهميش حاضر بأشكال مختلفة، سواء من قبل أسرته، أو حبيبته، أو حتى فضاء العمل، وكأن هناك محركا لكل هذه السياسات، يتمثل بجسد مثالي متخيّل ما زالت الأنظمة السياسية تحاول الحفاظ عليه، ومعاداة أشكال الانزياح عنه بوصفها مرضية أو معدية أو مادة خصبة للربح عبر استعراضها.