الجزائر: سياسات التعريب المغرضة وحراس الفرانكفونية
من الواضح أن قضية التعريب في الجزائر لا ينبغي أن تختزل في أنها مجرد مسألة إدارية وتقنية بحتة، بل هي قضية سياسية بامتياز، تحولت مع مرور السنين إلى فضاء للصراع بين عدد من التيارات منذ فجر استقلال البلاد إلى اليوم.
ولقد شهدت الجزائر، ولا تزال تشهد، مناورات كثيرة بهذا الخصوص، والقصد من ذلك ليس ترتيب عناصر الهوية الوطنية بما يخدم إبرازها ونموها وتطورها، وإنما خلط الأوراق والتعتيم على المقومات والأبنية المشكلة لهذه الهوية التي فصل فيها على مستوى الخطاب الشكلي، ولكنها على مستوى الممارسة الميدانية لا تزال تخضع للتطبيقات التعسفية وللتأجيل المغرض وللتجاذبات والحساسيات خدمة للمصالح الخاصة بشكل مخطط له بإحكام.
في هذا الصدد لا بد من التأكيد على أن هيئة كبرى مثل المجلس الأعلى للغة العربية قد نزعت منها جميع أسلحتها في مرحلة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، حيث صارت في عهده مجرد هيئة استشارية غير مخولة لضبط عملية تعريب الإدارة، ورقابة تطبيق هذا التعريب فيها فضلا عن فرض اللغة العربية واللغة الأمازيغية في المحيط العام الذي تسيـطر عليه اللغـة الفرنسية بلا منازع.
وفي الواقع فإنه منذ إدخال قضية التعريب، سواء أتعلّق الأمر بتعريب التعليم بمختلف مستوياته، أم بتعريب المحيط أم بتعريب الإدارة، في قفص رئاسة الجمهورية وإلحاقها بهذه المؤسسة التي تحتكر القرار هيكليا وتنظيميا وإشرافا سياسيا وهذه القضية في مدّ وجزر إلى يومنا هذا، بل أصبحت تعاني من سياسات التجميد والتسويف المتعمدين.
ففي الأيام الثلاثة الماضية برز إلى العلن خلاف مبدئي وإستراتيجي بين وزير التعليم العالي وبين وزيرة التربية والتعليم بخصوص مشروع هذه الأخيرة الذي يرمي إلى تنفيذ مخطط فرنسة المواد العلمية في منظومة التعليم، وخاصة في الطور التكميلي والطور الثانوي.
وبهذا الخصوص أعلن الطاهر حجار، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، عن معارضته لهذه الخطوة وفنّد المزاعم التي يزعم أصحابها، داخل أروقة التيار الفرانكفوني، أن اللغة العربية عاجزة عن استيعاب وتدريس العلوم بمختلف أنواعها حيث قال “المشكلة لا تكمن في اللغة في حدّ ذاتها وإنما في المقاربة المعتمدة في التدريس”، ويبدو أن وزير التعليم العالي بالجزائر يعني بالمقاربة طريقة التدريس وكفاءة المدرسين ونوايا المشرفين على العملية التعليمية وكذلك أصحاب القرار السياسي الحقيقيين في الدولة.
وفي الحقيقة فإن الوزير الطاهر حجار معروف بالتوازن في المواقف، وبالأقدمية في سلك التعليم حيث درّس في الكليات لسنوات، كما عمل كمدير لأكبر جامعة جزائرية وهي الجامعة المركزية متعددة الكليات والتخصصات في مجالات العلوم الإنسانية واللغات والعلوم الدقيقة بعاصمة البلاد على مدى عشرين سنة ونيف، ويعني هذا أنه ملم ببيداغوجيا التعليم، وكذلك المشكلات المركزية والكبرى للتعليم بكل فروعه ومستوياته ومنها مشكلة تدريس المواد العلمية المختلفة.
ومن هنا نجد تدخله يكتسي أهمية استثنائية علما أن هذا التدخل لا يصب في أي خانة سياسية معينة، وليس منحازا لهذا أو لذاك وإنما يقصد منه وضع الأمور في نصابها والدفاع الموضوعي عن صلاحية اللغة العربية لتدريس العلوم والتقنيات، وعن مكانة هذه اللغة في منظومة التعليم الوطني الذي يعتبر المركز الذي يصنع فيه مستقبل الوطن، فضلا عن كونه الفضاء الذي تبنى في كنفه الهوية الفكرية والعلمية للجزائر المعاصرة.
لا شك أيضا أن السيدة نورية بن غبريط، وزيرة التربية والتعليم، تتمتع بالكفاءة مقارنة بالكثير من وزراء التربية الوطنية الذين سبقوها، علما أنها اكتسبت تجربة في مجال البحث العلمي ذي الصلة بالتعليم بما في ذلك البحث في قضايا التعليم واللغة العربية، تمتد على سنوات طويلة قضتها كمديرة لمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية قبل أن تعين وزيرة للتربية الوطنية والتعليم.
من المعروف أن المشكلة المطروحة حاليا والمتمثلة في بروز مواقف حادة تحاول بكل الطرق نزع أهلية اللغة العربية عن مجال تدريس المواد العلمية ليست تحديدا من اختراع الوزيرة بن غبريط، بل إن المشكلة هي مشكلة النظام السياسي الحاكم في البلاد بالدرجة الأولى، فضلا عن المشاكل التي يخلقها الدور الذي يلعبه حراس الفرانكفونية المتطرفين المتغلغلين في مراكز دوائر صنع القرار، حيث أنهم هم الذين يمثلون بالدرجة الثانية العقبة الحقيقية أمام المشروع الوطني المتمثل في جعل اللغة العربية لغة تدريس العلم والفكر العلمي والتقنيات في كافة مستويات المنظومة التعليمية، بدءا من التعليم الابتدائي ومرورا بالتكميلي والثانوي وانتهاء بالتعليم العالي بكل تخصصاته.
من المؤسف أنه لحد الآن لم يفتح في الجزائر نقاش ذو مضمون وطني وعلمي، بعيدا عن الأغراض السياسية الشللية وبمشاركة وزارة التربية الوطنية ومختلف الوزارات المسؤولة عن التعليم العالي والمهني وغيرهما.
كما أن الهيئات والمجالس العليا مثل المجلس الأعلى للغة العربية فضلا عن المجالس والهيئات الأخرى التي لها صلة مباشرة بقضية المنظومة التعليمية لم ترم بثقلها من أجل إنجاز نقلة نوعية للتعليم في مضمونه وأهدافه الكبرى، وبسبب ذلك فإن البلاد تخلو حتى اليوم من ميثاق وطني خاص بمنظومة التعليم، كما تفتقد إلى قوانين رادعة تردع كل من يحوّل قضية التعليم إلى مماحكات حزبية وشللية تخدم مصالح هذا التيار أو ذاك.
إن التشكيك في أهلية اللغة العربية لخوض غمار تدريس العلوم هو نفسه التشكيك الذي يطال اللغة الأمازيغية التي تنعت بكثير من السخرية من طرف تيارات معروفة بأنها مجرد لغة السرديات الخرافية والشعبية والأساطير، وأنها بالتالي لا ترقى لأن تكون لغة الثقافة العالمة أي اللغة الواصفة التي يعمل بها العلماء والنقاد والمنظرون في حقل الفكر والعلوم الدقيقة والثقافة والآداب.
إن مثل هذه الحملات المغرضة ترمي بشكل موارب إلى تكريس اللغة الفرنسية في المنظومة التعليمية وفي المحيط العام كبديل لا ينافس، علما أن فرانكفونيي الجزائر، الذين تحكموا في إدارات أجهزة الدولة الأساسية، لم يحققوا ولو خطوة واحدة على طريق تحديث العناصر المادية والثقافية والذهنية داخل المجتمع الجزائري ومؤسسات البلاد.
كاتب جزائري