الثقافة العربية تخطئ هدفها في الأزمات

للمثقفين دور مؤثر إذا ابتعدوا عن الاتهامات والعداء.
السبت 2023/11/18
كيف نبني ثقافة عربية مستقبلية

بات من المكرر الحديث عن الدور الريادي للمثقفين والثقافة إذا أرادت المجتمعات العربية أن تنهض من أزماتها وتواجهها بجدية وعمق، لكن رغم التكرار الممل منذ عقود لهذه الوصفة الممكنة، فإننا نشاهد واقعا ثقافيا ومثقفين بعيدين عن أدوارهم في مجتمعاتهم، أو هم منساقون وراء التوجهات العامة الدينية والسياسية والاجتماعية، وهذا ما يدعو للتساؤل بحثا عن حلول.

مقولة “كل إناء بما فيه ينضح” تنطبق على طبيعة الفعل الثقافي وكيفية تعامله مع الراهن والمستجد أثناء الكوارث والأزمات.

و”النضوح الثقافي” هنا، حالة من طفح الكيل بفعل غليان مّا قد يصيب الدولة والمجتمع، فإذا كانت أباريق النخب الثقافية يملؤها وعي ونضوج وروح شفافة وتواقة للإبداع فستطفح بمثل ما تحتويه، أما إذا كانت تحتوي وعيا مزيفا يبطن حقدا وقبحا ونزعات انعزالية مقيتة فستفرز وترشح بمثل ما يملؤها أيضا.

الثقافة والمجتمع المأزوم

في خضم ما يمر به العالم، والبلاد العربية على وجه الخصوص، من أحداث عاصفة تهز كيان الفرد والمجتمع، فإن ما نقرؤه ونسمعه ونشاهده من إنتاج يحسب على الثقافة والمثقفين، ويسوّق له إعلاميون، يصيب حقا ـ وفي معظمه ـ بالاستياء الشديد.

يبدو هذا واضحا، إن كان في المضمون أو الشكل، وكذلك حجم التفاعل والتلقي لدى الجمهور العريض.

جدلية التلقي بين المبدع وجمهوره لا يشكك فيها أحد، وذلك انطلاقا من متلازمة المطلوب والمعروض ومقولة “كيفما كنتم يُروى أو يُمسرح أو يُلقى عليكم” أي أن شخصا من هو في موقع المبدع ليس إلكترونا منفصلا عن دائرة المجموعة، وكذلك العكس في كون الجمهور من صنيعة المثقفين.

ما فعلته ثقافة "الملصقات البلهاء" في الشارع العربي لعب دورا مزدوجا في تخريب الذائقة العامة واستنهاض العنف

ولا يمكن طبعا، إخراج وإقصاء الاجتماعي والسياسي والعقائدي عن المشهد الثقافي الذي هو بطبيعته شديد الالتباس والتعقيد من حيث عناصره ومكوناته.

لا شك أن ما يحدث في غزة مثلا، يثير الاستياء والغضب ويستدعي إعلاء الصوت للمطالبة بوقف هذه المجزرة أولا، ومن ثم تقييمها وربما في محاسبة الذات حول بعض أسبابها، لكن التعبير عن ذلك من طرف النخب الفنية والثقافية لا ينبغي أن يكون بالصراخ وحده أو الانزلاق نحو أساليب التعبير الشعبية الرائجة، والتي لا تخلو من انفعالات ساذجة.

إن الدعوة لسحب الجنسية الوطنية من فنان تونسي مثلا، لمجرد أنه يهودي الديانة، وأبدى رأيا مختلفا في ما يحدث دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء، لهو منطق لا يخلو من الغوغائية والتعسف.

لا يختلف عاقلان في أن هذا المنطق لم تتجرأ عليه أعتى النظم الدكتاتورية في غالب الأحيان. وقس على ذلك من شعارات تضر أكثر مما تنفع.

الأمثلة عديدة في هذا السياق وقد انحدر بعضها أيّما انحدار، لكن الأغرب من ذلك أن تساند الثقافة والمثقفون هذه الانفعالات الجارفة وتدعو لها بلا أيّ تفكير في أن المنجز الإبداعي عليه أن يترجم انفعالات الشاعر ويرتقي بها، دون أن يزايد عليها ويضيف لها صراخات وغوغائية لا مبرر لها.

ليس أصعب ولا أخطر من مناقشة أهداف الثقافة في مجتمع مأزوم ويمرّ بظروف استثنائية على المستوى الداخلي والإقليمي، ولكن الظرف الراهن جعل أنه من الأجدر طرحها لما باتت تمثله من تضخم وصل إلى درجة التشوّه.

فعل إنساني

المنجز الفني ينجح دائما في استمالة العقول والأذواق الغربية
المنجز الفني ينجح دائما في استمالة العقول والأذواق الغربية

السؤال البديهي والمتكرر إزاء هذا المشهد الثقافي غير المتزن وغير المقنع: إذا كنا أصحاب قضية إنسانية عادلة، فلماذا نعبّر عنها بطرق تبدو هوجاء وغير حضارية في الكثير منها؟

الجواب الذي قد يتوقعه الجميع من الجميع هو أن قوات الاحتلال وحلفاءها يتعاملون معنا بطرق غير إنسانية فمن البديهي أن نرد بالصاع صاعين، والبادئ أظلم.

أما الذي غاب عن أذهان معظم المروجين لهذا المنطق الذي قد يبدو مقنعا لدى بعضهم، هو أن المنجز الفني للخصم السياسي ينجح دائما في استمالة العقول والأذواق الغربية أكثر منا، وإن كان في أحيان كثيرة يستغل ويبتز الجانب العاطفي والإنساني مستخدما التجاهل من ناحية والانتقائية من ناحية أخرى مثل اللعب على الهولوكوست والمحرقة النازية، والتعامي عمّا ارتكبته قوات الاحتلال الإسرائيلي.

المسألة إذن، تتعلق بفهم ماكر وعميق لدور الثقافة والفنون في التعبير عن الذات، وحتى تسويقها إعلاميا وسياسيا كما تفعل إسرائيل.

لا يمكن طبعا إخراج وإقصاء الاجتماعي والسياسي والعقائدي عن المشهد الثقافي الذي هو بطبيعته شديد الالتباس والتعقيد

ما فعلته ثقافة “الملصقات البلهاء” في الشارع العربي، لعب دورا مزدوجا يتمثل في تخريب الذائقة العامة ومحاولة استنهاض منسوب العنف بشكل مجاني من ناحية، ثم دعم موقف المحتل أمام الرأي العام الدولي بأننا ذوو نزعات عنصرية تميل إلى العنف.

المثقفون والفنانون العرب الذين تفطنوا إلى هذه المعادلة، وفهموا جوهر العمل الإبداعي ورسالته هم ـ وللأسف الشديد ـ “قلة ملعونة” في العالم العربي، وطالتهم اتهامات تشكك في وطنيتهم وعروبتهم بل وتضعهم أحيانا في موقع العمالة والخيانة.

حدث ذلك بسبب انكفائهم عن الصراخ السياسي والأسلوب الخطابي المباشر، ونزوعهم نحو العمق وتكثيف الدلالة ومخاطبة الإنسان في الذات البشرية أينما وجدت.

هل يعلم المثقفون في بلادنا العربية أن أدب أميركا اللاتينية وأماكن أخرى من العالم، حقق تألقه العالمي بفضل نزعته الإنسانية غير المدّعية وابتعاده عن المسلكية الاتهامية والنزعات العدائية.

ليس من أهداف الثقافة إثارة الضغائن وصناعة الحساسيات بل هي في توصيفها الإبداعي فعل فردي يتصل بالمجموعة فلا يناصبها العداء ولا يمارس عليها التحريض.

12