الثقافة الأمازيغية ليست مطلبا شعبيا في تونس

التونسيون يحاولون إحياء الثقافة الأمازيغية دون تشنج.
السبت 2024/01/20
أمازيغية تونس أسيرة القاموس المتحفي

الأمازيغية ثقافة عريقة وأصلية في تونس، ولكن على عكس بلدان شمال أفريقيا الأخرى وبالخصوص الجزائر والمغرب، لا تعرف هذه الثقافة اهتماما كبيرا لدى التونسيين، إذ انصهرت في الثقافات الوافدة الأخرى كالعربية والفرنسية، كما دفعت السلطة السياسية ومعها النخبة إلى تذويبها لاحقا في نسيج المجتمع الواحد، ولهذا سلبياته أكثر من المحاسن.

احتفالات خجولة ومرتبكة ظهرت في تونس مواكبة لحلول السنة الأمازيغية الجديدة، وقد اقتصرت على بعض الجمعيات الناشطة رسميا منذ العام 2011، وذلك على عكس الجارين الإقليميين الجزائر والمغرب اللذين خصصا الكثير من الاحتفاليات والندوات الثقافية مطلع العام 2974 من السنة الأمازيغية.

السؤال الذي يطرح هنا على مثقفي تونس من عرب وأمازيغ وغيرهم هو: كيف لم تترك 2974 عاما من الحضور الأمازيغي أثرا يليق بهذا التاريخ الضارب في القدم، في حين تنتشر في البلاد، وتتكاثر هنا وهناك، الندوات المخصصة لأقليات ثقافية أخرى لا ترقى في حجمها الديمغرافي والتاريخي إلى من نعتبرهم السكان الأصليين للبلاد؟

ثقافة متحفية

الأمازيغية لم تسجل حضورها في مواكبة الأحداث والتطورات وغابت عن المسرح الثقافي والسجال الفكري والسياسي

الأمر لا يتعلق هنا بتضييق رقابي من قبل السلطات الرسمية -وإن كان قد حصل هذا فعلا قبل 14 يناير 2011 بذريعة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي- وإنما بعدم تغلغل هذه الثقافة في النسيج المجتمعي، لا لأسباب ديمغرافية تخص النسب السكانية وتوزعها في البلاد، وإنما لاعتبارات تخص الثقافة نفسها لغة وكتابة وانتشارا.

ظلت هذه الثقافة عاجزة عن تسجيل حضورها في مواكبة الأحداث والتطورات، وغائبة عن المسرح الثقافي والسجال الفكري والسياسي، ما عدا بعض المثول المتحفي والفولكلوري.

الأسباب عديدة ومتنوعة، من ذلك أنها تركت محلها للغتين العربية والفرنسية لأسباب تتعلق بالكتابة والقراءة وقوة الانتشار، بالإضافة إلى أن القومية الأمازيغية لم تطرح بقوة في الشأنين السياسي والاجتماعي كما هو الحال في الجزائر والمغرب. وظل المجتمع التونسي شبه متجانس وبشكل مطلق، مقارنة ببلدان عربية أخرى في المشرق والمغرب.

وحين أثيرت الهوية الأمازيغية في تونس مع فتح الباب لانطلاق الجمعيات والأحزاب في تونس عقب 2011، لم تخرج من كونها مجرد حساسية ثقافية ينبغي الاعتراف بها على سبيل إغناء المشهد التعددي لا أكثر ولا أقل. وبقيت أسيرة القاموس المتحفي فلا تثار إلا على سبيل نوع من “الترف الثقافي” لدى بعض المهتمين والمهتمات في أوساط أغلبها ميسورة، وليست مطلبا شعبيا ملحا.

وفي هذا الصدد قال أحد المنتقدين لهذه الظاهرة “نتمنى أن ينتقل الحراك الثقافي للهوية الأمازيغية في تونس من كليشيهات المطبخ والأزياء إلى التركيز على تصحيح تاريخ أسلافنا البربر على أرضنا وضبط خطة لمقاومة الانبتات والاستعراب في صفوف المتعلمين قبل غيرهم، بإعادة النظر في محتويات التعليم وملامح المتخرج من المدرسة التونسية”.

يأتي هذا على عكس بلد مثل المغرب، يشتد فيه الحوار والنقاش بمنتهى الجدية والواقعية السياسية والثقافية كالندوة العلمية التي أقيمت مؤخرا بآيت أورير المغربية، حيث أجمع المشاركون في أشغال ندوة “الثقافة الأمازيغية.. هوية وحضارة” على أهمية الثقافة الأمازيغية وفرادة مكوناتها الحضارية، مشددين على غنى روافدها الحضارية الضاربة في القدم والتي تختزن وجها من وجوه تميز الهوية المغربية الممتدة في التاريخ.

أما في تونس فتكتفي الجمعية الوطنية للثقافة الأمازيغية التي تأسست في 2011 بالتأكيد في بياناتها واجتماعاتها على العمل من أجل تحقيق أهدافها ضمن كليشيهات متكررة من قبيل “نجدد التزامنا بالتجند مع كل الجمعيات الأمازيغية والناشطين المستقلين من أجل خدمة الثقافة والهوية الأمازيغية وتحقيق مطالب أمازيغ تونس في الاعتراف بثقافتهم ولغتهم ورفضهم لكل أشكال الإقصاء والتهميش والطمس الممنهج”.

التناقض الصارخ

ثقافة الأمازيغ نختصرها في اللباس وأمور هامشية
ثقافة الأمازيغ نختصرها في اللباس وأمور هامشية

لا جدية إذن، ولا صراخ ولا تشنج في التأكيد على مطالب أمازيغ تونس مكتفين بعرض واستعراض التراث الأمازيغي ذي الطابع السياحي، والذي يحبه كل التونسيين دون استثناء. هل نعتبر هذا الأمر تراخيا واستسلاما للثقافتين العروبية والفرنكفونية على حساب الجذور الأصلية التي ينبغي استنهاضها، أم نوعا من الواقعية الخالية من عصبيات نحن في غنى عنها.

الحقيقة أن هذا هو الواقع الذي ينبغي قبوله والاعتراف به بمنتهى الواقعية، ذلك أن لا أدب أمازيغيّا مكتوبا بلغته، لا شعر، لا مسرح ولا سينما، ما عدا لوحات فلكلورية متكونة من إيقاعات وأنغام وبعض الكلمات، بالإضافة إلى مهن وزخارف وملابس ونسيج يسوق منذ القديم تحت يافطة “التراث البربري”، ويتعايش معه التونسيون دون حتى مجرد السؤال عن أصوله بل يكتفون بالقول إنه تونسي.

الغريب أن يدافع التونسي عن حقوق الشعوب الأخرى التي تطمس هوياتها من جهة، ويرضى بالانصهار مع ثقافة أخرى

هل أن في هذه الحالة بعض التعسف والازدراء لثقافة تمثل الأصل والمهد والمنبع؟ هل يقبل التونسي على نفسه تجاهل ثقافة بأكملها بل وتمثله أفضل تمثيل؟ أليس هذا ضربا من العنصرية المقيتة في عصر الحقوق والحريات؟ ثم الغريب أن يدافع التونسي عن حقوق الشعوب الأخرى التي تطمس هوياتها من جهة، ويرضى بالانصهار مع ثقافة عربية أو فرنسية دون أن يكلف نفسه عناء السؤال من جهة أخرى. هي حالة من الانفصام المقيت والتناقض الصارخ، فكيف يقبل المرء بتجاهل جذوره لحساب ثقافة أخرى، خصوصا وأن العروبة في تونس عمرها 15 قرنا، الفرنكفونية أقل من قرنين، بينما تبلغ الأمازيغية في بلاده 2974 عاما؟

وبالمقابل، فإن المتابع للمشهد الفني والثقافي في تونس يلاحظ اهتماما بالإرث الأمازيغي دون تعصب أو توظيف سياسي، ويتقبله بمنتهى الترحاب والبهجة كما في حالة الفنانة سحر التي تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي كثيرا وكذلك في بعض الفضاءات الثقافية معتبرة الأمازيغية هي اللغة الأم. واختارت الفن كوسيلة للتعبير عن تشبثها بهويتها كما أنها تنتج أغاني باللغة الأمازيغية بهدف التعريف بهذا التراث العريق كما قالت.

وقالت الفنانة سحر لوكالات الأنباء “أنا كتبت أول أغنية ولحنتها بمجهودي الخاص كان اسمها ‘تامورثينو’ أحكي فيها عن انتماء تونس وأردت إحياء الثقافة الأمازيغية لأنها الثقافة الأم في شمال أفريقيا، ويجب تعويد الشباب عليها ولدي أعمال أخرى على شكل كليبات تحث على حب الوطن وحب الهوية”. لعل هذه الفنانة تمثل النموذج التونسي المتمسك بالهوية الأمازيغية في حالة من التسامح والانتماء ودون تعصب.

12