الثقافات حين تتغذى من رصيدها.. انحدار فانتحار فاندثار

الموروث الثقافي للأمم والشعوب قابل للاستهلاك والنفاذ، مثله مثل الثروات الطبيعية في باطن الأرض وسطحها أو حتى في أعماق البحار.
وعليه، فإن أي طاقة مهما كان حجمها، قابلة للانتهاء والاندثار ما لم يُسارع إلى تعويضها وتجديدها وإزكاء روح العصر فيها، فانتبهوا يا معشر الأغرار ممن أخذتهم العزة والمفاخرة بما تركه الأجداد والمؤسسون.
ينسحب وينطبق هذا القانون على كافة المجالات، بما في ذلك الدولة المدنية ومؤسساتها الثقافية على وجه الخصوص، إذ قد تصاب بالترهل على مستوى بناها التحتية والفوقية، وجميع قياداتها ومسيريها.
ومن البديهي أن تنظر الثقافات إلى من حولها، وكيف أفلت ثقافة وصمدت أخرى لتأخذ العبرة من التاريخ وتتنبه إلى سبل العيش الطويل وطرق التجدد وتجنب الاندثار.
الثقافات التي اطمأنت إلى تاريخها القديم، استندت إليه وحده ونهلت منه دون أن تضيف إليه، كان مآلها الانحدار ثم الانتحار فالاندثار.
النماذج كثيرة ومتنوعة، وبدرجات متفاوتة كاليونان والفرس والرومان وغيرهم، أما في عالمنا العربي الحديث والمعاصر، فلا يمكن النظر إليه ككتلة واحدة منذ أفول الحكم العثماني، وإنما علينا رصد الثقافة الوطنية لكل قطر على حدة، بداية من مطلع القرن الماضي، مرورا بدولة الاستقلال في منتصفه الثاني، ووصولا إلى يوم الناس هذا.
مشكلة الفكر والمعرفة في العالم العربي أن هيئات الإشراف تتعامل معها كأوابد أثرية يغلق عليها في واجهات المتاحف وخزائن الكنوز ثم نكتفي بالمفاخرة بها وقبض النقود ممن جاء كي يتفرج عليها
مسح يمتد قرابة مئة عام، جدير بأن يضعنا عند حقائق مفصلية في الشأن الثقافي لكل دولة عربية، وإن كان لا يمكن البتر أو القطع مع المسألة السياسية وخيارات كل قيادة أو بالأحرى، القيادات التي تعاقبت على هذا البلد أو ذاك.
إن بلدا مثل تونس مثلا، كان قد راهن على الثقافة منذ نشوء دولة الاستقلال، وجعلها الزعيم الحبيب بورقيبة نصب عينيه كهدف استراتيجي في بلد محدود الموارد الطبيعية، متواضع الإمكانيات البشرية التي كان يكبلها الفقر والأمية.
الآن، وبعد مضي ما يقارب الستين عاما من تلك السياسة الثقافية المستندة إلى خطة تربوية شديدة الصرامة والسخاء على المدارس والجامعات، يمكن القول إن الدولة قد كسبت الرهان، وبات لتونس ما يمكن تسميته بنخب ثقافية وازنة، ولها تأثيرها وثقلها الإقليمي على الأقل.
أما ما لم يكن في الحسبان، هو أن الثقافة في تونس اليوم، أصبحت تأكل من رصيدها، وسنواتها الذهبية وسط تراجعات وانتكاسات عديدة بعد تبين أن ليس بالثقافة وحدها تحيا الشعوب.
برزت أخطاء وعثرات وثغرات عديدة في المشهد الثقافي التونسي كان أخطرها ترهل الجسم التدريسي وتقهقر المستوى التعليمي كأهم مغذ للثقافة أمام تحديات معيشية جعلت المواطن التونسي ينظر إلى الثقافة والمثقفين بشيء من الاستخفاف. وبدأت حبات المسبحة تنفرط الواحدة بعد الأخرى.
لم يعد للمثقف التونسي تلك الحظوة التي كان عليها في البلاد العربية أو حتى في الغرب الأوروبي حيث كانت جامعاته قبل سنوات تستقبل الطالب التونسي دون أن تخضعه لفحوص واختبارات إضافية، كما تفعل مع وافدين من بلدان أخرى بما فيها بعض البلدان الأوروبية.
واستمر بعض مثقفي تونس في أوهامهم بأنهم الأفضل عربيا، في حين أن الأمر ليس كذلك، ولم يتفطن هؤلاء أن بلدانا عربية أخرى بدأت تحتل الصدارة بفضل مستوى جامعاتها وتطور التعليم فيها وتغير نمط العيش ومستوى الذائقة.
وأمام انتكاسات عديدة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وبعض الخيارات الخاطئة الناتجة عن عدم التجديد في النظم البيداغوجية وغيرها، أصبح أهل الثفافة يستهلكون من الرصيد البورقيبي، ولم يضيفوا إليه شيئا.
تغيرت الموازين في كل شيء، على المستوى العربي والإقليمي والدولي، بدليل ترتيب الجامعات والأكاديميات مع نظيراتها في العالم. وأصبح مثقفو البلاد أشبه بفتية أهل الكهف “ينامون والشمس في كبد السماء”.
ما حصل يشبه قصة الأرنب والسلحفاة أي أن من كنا نظنهم بطيئين ولا أمل من فوزهم أمام طاقاتنا قد ثابروا واستحقوا الفوز والتفوق، بينما وثقت الأرانب من سرعتها فاستسلمت للراحة والكسل.
وبصرف النظر عن هذه المقاربة المدرسية والطفولية، فإن الخطأ هنا تتحمله السياسات الثقافية والتربوية الخاطئة، ليس زمن التأسيس بل العكس، زمن اعتقدنا أن ما رسمته السياسة البورقيبية يصلح لكل زمان ومكان، فاستندنا إلى هذا الإرث الثقافي ظانين أنه لا ينتهي أبدا.
الموروث الثقافي للأمم والشعوب قابل للاستهلاك والنفاذ، مثله مثل الثروات الطبيعية في باطن الأرض وسطحها أو حتى في أعماق البحار
وينطبق هذا الأمر على جميع النجاحات والمنجزات كما في الرياضة والغناء مثل طرفة المواطن المصري مثلا، والذي يعتقد أن صوته جميل لمجرد أن أم كلثوم وعبدالوهاب وسيد درويش من مواطني بلاده.
الأنكى والأدهى في الأمر أن الذين يتعاملون بشوفينية واستعلاء في التعصب لثقافة بلادهم هم من المنتفعين وليسوا من البنائين والمؤسسين والمساهمين في تلك الثقافة.
أي رصيد ثقافي يمكن أن ينفذ لمجرد أنك لم تزد عليه أو تحافظ عليه كأضعف الإيمان.
مشكلة الفكر والمعرفة في العالم العربي أن هيئات الإشراف تتعامل معها كأوابد أثرية يغلق عليها في واجهات المتاحف وخزائن الكنوز ثم نكتفي بالمفاخرة بها وقبض النقود ممن جاء كي يتفرج عليها.
هذا المشهد المؤسف لا ينطبق على تونس فقط، وإنما على بلدان وعواصم عربية أخرى مثل مصر التي يقر أبناؤها من المثقفين أن الثقافة تراجعت عما كانت عليها في أزهى عصورها، وذلك بسبب “الثقة الزائدة” بموروث قابل للاستهلاك بطبيعة الحال.
وسابقا أعجب تونسيون كثيرون بمقولة بورقيبة “لقد بنيت جيلا متينا يمكن أن يحمل المشعل من بعدي، لكنه تدارك بقوله “ما أخشاه على البلاد هو أخطار الداخل وليس الخارج”.
وعند أحداث 2011 صمدت الدولة المدنية بمؤسساتها التي لم تغلق أبوابها حتى في غياب الحاكم، لكن لذلك الصمود عمر محدد يُقتطع من الرصيد البورقيبي، وليس دائما بطبيعة الحال.