التوجس المبالغ فيه من النتائج يجعل اتخاذ القرارات صعبا

يقول المثل الشعبي “الذي يخاف من العفريت يطلع له”!، أي أن من يخاف من الجن والأشباح بشيء من المبالغة بحكم ما هو متوارث، سيأتي اليوم الذي يجدها فيه أمامه في الواقع. وإذ نتجنّب أحيانا الإقدام على عمل ما أو اتخاذ قرار ما ضمن خيارات كثيرة، خوفا من سوء الاختيار أو عدم تطابق اختيارنا مع أهدافنا وظروفنا الشخصية ما يجعلنا تحت رحمة مشاعر مزعجة وقلق وضغط نفسي كبير، وبسبب تسلط هذا القلق تحديدا، فإن إمكانية حدوث ما كنا نخافه يصبح واردا جدا.
واحدة من أكثر الطرق السريعة لضمان شعور مضاعف بالإرهاق والقلق، اتخاذ قرارات سريعة وخاطئة وهذا بدوره يجعل من الأمور السيئة اكثر سوءا ثم يأخذنا إلى سلسلة من الأخطاء والنتائج المزعجة التي كانت في الأساس سببا لمخاوفنا من احتمالية اتخاذ قرار غير سليم. هذه الحلقة المفرغة من المشاعر المخيفة والأفعال غير المسؤولة، تأتي في الغالب بسبب تشوّه تفكيرنا وعدم قدرتنا على التركيز وتحديد أبعاد احتياجاتنا وأهدافنا الحقيقية.
بالطبع، هناك قائمة من الفروق الفردية بين الأشخاص لا يمكن تلافيها في مثل هذه المواقف؛ فبعض الناس يعلقون بسهولة في شبكة القلق والضغط النفسي عند أبسط عثرة يمكن أن تواجههم في الطريق، بينما يحتفظ البعض الآخر بهدوئه ورباطة جأشه في معظم الأوقات العصيبة، وبذلك يكون ذهنه رائقا وقراراته متأنية ومدروسة، وهو لذلك يحسن التصرف ليضمن النتائج التي يتوقعها.
يؤكد الأستاذ الممارس في علم النفس السريري في مدينة نيويورك وعضو مجلس مستشاري الرابطة الوطنية للمعالجين السلوكيين د. ناندو بليوسي؛ أن السبب في تشتيت الانتباه ووقوع المحذور، أن بعض الناس يعتقدون أن القرار الذي يتخذونه يتوجب أن يكون صائبا في المطلق، وفي هذه الحالة، هم يضعون أنفسهم تحت رحمة مشاعر مزعجة وحتى مجرد اتخاذ قرارات بسيطة قد تشلّ تفكيرهم.
يسمّي متخصصون هذه الطريقة بالتفكير ذي الواجهتين؛ أي أننا عندما نكون قلقين نميل إلى جعل الأمور تأخذ مسارا متطرفا في التقييم لنبقى متأرجحين بين ثنائيات مثل المواجهة أو الهروب، الصحيح والخطأ، الجيد والسيء، بطريقة غير منطقية قد تأخذنا بسلاسة إلى القرار غير المناسب.
يشير بليوسي إلى أهمية أن نضع في حسابنا عند اتخاذنا لأي قرار، أن التيقن من صواب أمر ما هو إلا خدعة وسراب؛ إذ لا يمكننا كأشخاص عاديين أن نكون متأكدين تماما من جدوى خيار ما ومفاضلته مع بقية الخيارات ومن قال إن اليقين هو من يحدد القرار؟
ببساطة، لسنا بحاجة إلى هذا اليقين في الأساس وبدلا من ذلك يفضل أن يتبع الناس حدسهم الذي يوفر لهم مستوى جيدا من الثقة والاطمئنان الداخلي. لكن، ما هو التصرف المناسب في حال اتخذنا القرار واكتشفنا، لخيبتنا، أنه كان خيارا خاطئا عكس ما توقعناه أو ربما كما توقعناه بالتحديد!
لدى مواجهتنا لأمر واقع كهذا، يتعيّن علينا في هذه المرحلة عدم الاستمرار بل التوقف والتقاط الأنفاس ثم التوجه إلى استشارة طرف ثان، خاصة إذا كان على دراية بالملابسات والظروف التي وضعتنا في هذا المحك أو أن يكون هو نفسه كان في موقع مشابه وتطلبت منه الظروف اتخاذ القرار ذاته. يقول أحد علماء النفس “عندما أحتاج إلى اتخاذ قرار ما، فإنني أقضي الكثير جدا من الوقت في مجرد التنقل والتحدث إلى أشخاص أذكياء”.
من جانبه، يرى المؤلف والطبيب النفسي الأميركي د. آدم غرانت، الذي يعمل في التدريس في قسم علم النفس التنظيمي في كلية وارتون جامعة بنسلفانيا الأميركية؛ أننا في عملية اتخاذ القرار يجب أن نضع في الحسبان حدودا معينة ومعايير مسبقة للخيارات، فإذا ما خيّرنا بين عدة وظائف مثلا وجب أن نرصد حدا زمنيا لاختيارنا وظيفة معينة إذا لم تتحقق فيه (القرار) المعايير التي افترضناها أو النتائج المتوقعة، أو أن تقديرنا وحدسنا لجدوى هذا القرار لا يأتيان على مقاس منطقي، فالأفضل أن نتجه إلى خيار آخر وآخر.
التيقن من صواب أمر ما هو إلا خدعة وسراب، إذ لا يمكننا كأشخاص عاديين أن نكون متأكدين تماما من جدوى خيار ما
في حين، يرى بعض المتخصصين أن الشخص الذي يتخذ قرارا معينا قد يمتد أثره على المحيطين به مثل أفراد أسرته، ويتوجب عليه أن يفكر في جدواه وتأثيره السلبي عليهم إذا ما كان قرارا فاشلا فهو في النهاية لا يدور في فلك شخصي.. وبالتالي قد يسبب هذا المزيد من القلق والضغط النفسي مع زيادة الإحساس بالمسؤولية.
وينصح غرانت بضرورة أن نكون حذرين من مجاملات الآخرين، فبعض معارفنا وأصدقائنا وربما بعض الأفراد المقربين من أسرتنا يتلافون فكرة وقوعنا في الخطأ المتكرر بسبب قرارات متسرعة، ويحاولون أن يبتعدوا عن مواجهتنا بأخطائنا ظنا منهم أنهم يفعلون ذلك لمصلحتنا ويهوّنون علينا شعورنا بالإحباط وفقدان الثقة في النفس. وفي الواقع، يسهم هؤلاء من دون قصد ربما في تشويش رؤيتنا الموضوعية للنتائج وزيادة ثقتنا في أنفسنا الثقة التي لا تأتي في موضعها وتوقيتها الصحيح، وكأنهم يزيّنون لنا ضعفنا ويربتون على فشلنا المتكرر.
القرار، قد يكون أمرا أكثر تعقيدا مما نظن، وهذا يفسر ما كتبه الروائي البرازيلي باولو كوليو عندما أشار إلى “أن القرارات تشكل فقط بداية شيء ما. فعندما يتخذ شخص ما قرارات يغوص فعلا في تيار جارف يحمله نحو وجهة لم يكن يتوقعها إطلاقا حتى في الحلم، لحظة اتخاذ ذلك القرار”.