التنمية الثقافية.. بلدان أقلعت، بلدان تلكّأت وأخرى تراجعت

يعيش القطاع الثقافي في أغلب البلدان العربية على الدعم الحكومي، وإن كانت الأنشطة الثقافية غير ربحية بالأساس فإنها بتحولها إلى مجال استنزاف لميزانيات دول تعاني أزمات متراكمة أمر يدعو إلى إعادة تقييم المشهد للخروج بحلول تتجاوز الترقيع المعتاد.
الأيام التي كان يجلد فيها الإنسان العربي في بيته بتكرار عروض مسرحيات “الزعيم” و”ريا وسكينة” و”شاهد ما شافش حاجة” أثناء الأعياد ولّت وانقضت إلى غير رجعة، والحمد لله.
الفضل يعود، طبعا، إلى وفرة وتنوع منصات الفرجة، وليس بالضرورة إلى رقي الذائقة المقترحة للبدائل في الإنتاج الفني الذي كان يشكو من غياب المنافسة.
أزمة التذاكر
زيادة أسعار تذاكر السينما والمسرح وكافة العروض الفنية في مصر شكلت صدمة كبيرة لجمهور الفنانين والمتابعين
تأتي هذه الأيام عطلة عيد الأضحى المتزامنة مع الصيف، وتأتي معها الحاجة إلى كل ما هو ترفيهي تتشابك فيه النشاطات الثقافية والسياحية على مستويات متعددة ومتفاوتة بحسب القدرات والإمكانيات الذهنية و”الجيبية”.
ولأن مصر هي الثقل البشري والتاريخي الذي كان ولا يزال يقاس من خلاله الإنتاج الثقافي العربي، على الرغم من ظهور مراكز قوى جديدة وفاعلة، فإن ما تردد أخيرا عن زيادة في أسعار تذاكر السينما والمسرح وكافة العروض الفنية على شكل ضريبة تقتطع من الإنتاج الثقافي، شكل صدمة لجمهور الفنانين والمتابعين وأصحاب المنشآت الثقافية والسياحية.
ما كاد رواد النشاطات الثقافية والعروض الفنية يتعافون من الحظر الناجم عن فايروس كورونا الذي ألزمهم منازلهم، حتى صدموا بهذه القرارات الضريبية غير المبررة في حق القوى الناعمة، والتي كان من الأجدر دعمها بدل إنهاكها بالقيود المالية التي من شأنها أن تشلها وسط ظروف اجتماعية قاسية على المواطن الذي يبحث عن خبزه المعيشي اليومي قبل الثقافي والمعرفي.
مثل هذه القرارات القاسية يمكن لها أن تسبب حالة نكوص فيرتد مرتادو الفن والثقافة إلى منازلهم باحثين عن حاجاتهم أمام الأجهزة الإلكترونية ومنصات البث التي ستتأثر بدورها بهذا القرار، وتسارع إلى الزيادة في أسعار اشتراكاتها أسوة بدور العرض التقليدية.
كل شيء ستزداد كلفته بزيادة أسعار التذاكر وتراجع أحجام الإقبال، وكذلك النشاطات السياحية والترفيهية المرتبطة بها ارتباطا وثيقا.
الكل يعلم أن الثقافة ليست قطاعا ربحيا - وحبذا لو تكون كذلك ـ إنما هي استثمار في الإنسان على المدى البعيد، ورهان على مستقبل أجيال، ولكن يمكن إيجاد حلول تتعلق بالحوكمة وحسن الإدارة والتسيير في الشأن الثقافي، حيث لا يفنى القطيع ولا يشتكي الراعي كما يقال.
وفي هذا الإطار، دعا مستشارون ومهتمون بالشأن الثقافي في مصر إلى مواجهة هذا الإشكال عبر تفعيل فكرة الترشيد المالي على نشاطات وزارة الثقافة، حيث أن الربح ليس كله ربحا ماديا، ويمكن تقليل إنفاق الوزارة عبر حوكمة عملية اختيار المستشارين مثلا، وتعديل قانون الهيئة العامة لقصور الثقافة، بحيث تتحول القصور إلى وحدات اقتصادية، مع ربط عدد العاملين بكل قصر بعدة عوامل مثل مساحته وعدد سكان المنطقة الموجود بها.
ونوه هؤلاء إلى أنه من الجيد أن تكون هناك تعاونيات استهلاكية أو زراعية وغيرها، ولكن دولة بحجم مصر من المحتم أن تكون بها “تعاونيات ثقافية”؛ فالأصل هو أن الثقافة للجماهير وليست للسلطة، مضيفين أن التعاونيات الثقافية هي بمثابة قناة تسويقية للمنتجات الإبداعية المختلفة.
مثل هذه الحلول المقترحة في بلد بحجم مصر، يمكن أن تخفف من الأموال المرصودة، والمهدورة أحيانا بسبب سوء الحوكمة، لكنها ليست على نفس الفاعلية مع بلدان مثل الإمارات والسعودية وتونس، وعلى درجات متفاوتة.
الخارطة الثقافية تتغير
مصر لديها أولويات، والإمارات بفضل ثرواتها وقوة اقتصادها، استطاعت أن تربط الثقافة بالتنمية السياحية والترفيهية من خلال اعتمادات مالية ضخمة وآليات تتعلق بالجانب المعيشي للمواطن أمام تحديات بشرية واقتصادية كثيرة في بلد يشهد نموا سكانيا هائلا، أما بلدان مثل السعودية فرصدتها للمستقبل القريب والبعيد ضمن خطة تنموية شاملة.
المواطن العادي في بلدان الخليج لن يحجم عن الإقبال على النشاطات الفنية والترفيهية بحكم قوة إمكانياته الشرائية من جهة، ومساهمة الدولة في دعم تلك النشاطات من جهة ثانية.
أما لدى المستهلك المصري للإنتاجات الفنية فالأمر يتعلق بإمكانات محدودة وجب عليه أن يوفر الجزء الأكبر منها لضروراته المعيشية، وإن كان الإقبال على السينما والمسرح والحفلات الغنائية جزءا لا يتجزأ من تقاليده في بلد عرف السينما بعد شهر واحد من اختراع آلة التصوير أواخر القرن التاسع عشر.
وإذا أخذنا بلدا مثل تونس في مجال الموازنات المرصودة للأنشطة والإنتاجات الثقافية، فإنها تقع في منزلة بين منزلتين: تعويل مبالغ فيه على دافعي الضرائب رغم المساعدات الأجنبية وبعض مساهمات القطاع الخاص، وإقبال على أصناف فنية دون غيرها، مما جعل الفنانين يشكون من قسمة غير عادلة.
ثمة “ديناصورات ثقافية” في تونس، يستحوذون على نصيب الأسد من الدعم الحكومي، ويرمون بالفتات إلى مستحقيه من غير المتنفذين في أروقة وزارة الإشراف.
هكذا بدأت الخارطة الثقافية بالتغير في العالم العربي لصالح البلدان الخليجية التي أحسنت التصرف في أموالها المرصودة للثقافة والفنون والترفيه بعيدا عن المحاباة والمحسوبيات، ضمن خطط تنمية شاملة، في حين تخبطت وتعثرت بلدان طالما كانت محسوبة على الازدهار الثقافي مثل مصر وتونس.
الحلول الترقيعية في هذا المجال، لا تجدي نفعا، على شاكلة فرض الضرائب على أنشطة ثقافية أو الدعوة لإنشاء تعاونيات كما في مصر أو تحول وزارة الثقافة إلى بقرة حلوب يستفيد منها غير مستحقيها كما في تونس، وإنما ينبغي التفكير في خطط شاملة تقتضي التعاون والتنسيق على مستوى العالم العربي، وربط التنمية الثقافية بخطة شاملة تكون تحت إشراف حَوكمة رشيدة من أهل الاختصاص.