التنقل المتكرر مشكلة تؤرق عائلات الدبلوماسيين

اعتاد الدبلوماسيون وعائلاتهم التنقل والتحرك من مدينة إلى أخرى مودعين بشرا وأماكن وعادات وتقاليد وثقافات، ما يُشكل عبئا نفسيا على أبنائهم خاصة في استيعاب التغيرات الجارية والشعور بالتأقلم والاستقرار.
على الرغم من النظرة الإيجابية لطبيعة عمل الدبلوماسيين القائمة على تبادل كلمات المجاملة والانفتاح على الثقافات المتنوعة وكثرة السفر والحركة والمشاركة في الاحتفالات والمراسم الخاصة، إلا أن البعض يرى أن عائلات الدبلوماسيين تدفع مقابلا باهظا لذلك على المستوى النفسي والاجتماعي نتيجة التغير السريع في البيئة المحيطة بها.
معاناة نفسية
وتحدثت زوجة دبلوماسي مصري عمل في إحدى الدول العربية لأربع سنوات عاد بعدها إلى مصر، ثم انتقل مرة أخرى إلى دولة أفريقية، لـ”العرب” عن معاناتها وأبنائها مع بعض المشاكل النفسية، بسبب تغير المحيط المجتمعي لهم، جراء الانتقال بين ثلاثة بلدان خلال فترة وجيزة.
ومن المعتاد أن ينتقل الدبلوماسي من مكان إلى آخر كل أربع سنوات، وهو ما يتباين قليلا من دولة إلى أخرى، ويخضع الأمر في بعض الأحيان إلى استثناءات خاصة تتعلق بطبيعة المهمة التي يقوم بها الدبلوماسي، فقد يتم نقله إلى مكان آخر قبل انتهاء مدته المحددة.
وقالت السيدة المصرية، رفضت ذكر اسمها، إن ابنتها البالغة من العمر عشر سنوات ارتبطت بصداقات متينة في دولة عربية كانوا يقيمون فيها، ثم لم تلبث أن انقطعت علاقتها بأصدقائها بعد انتهاء البعثة عقب عامين نتيجة انتداب الأب لبلد ثان.
وحاولت الابنة تعويض صداقاتها والارتباط بمحيط آخر، لكن الأمر لم يطل إذ سرعان ما انتهت المهمة وعادوا إلى الوطن، ما أدى إلى مرور الابنة بحالة اكتئاب أثرت على علاقتها بمن حولها، وكادت تتعثر دراسيا.
ورغم أن الأم حاولت من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي الحفاظ على صداقات ابنتها، غير أن بُعد المسافة وعدم اكتراث بعض الأصدقاء والصديقات بالتواصل كان أمرا محبطا للغاية.
الأبناء يواجهون تحديا كبيرا يتمثل في ضرورة الحفاظ على هويتهم من التشتت والذوبان، والحفاظ على معتقداتهم
ولم تجد الابنة بدّا من الاستسلام للأمر الواقع، مقتنعة بأن تغير وتبدل الأحوال طبيعة من طبائع حياة أسرة الدبلوماسي، وحرصت الأم على تقريبها من تجارب فتيات وشباب مروا بظروف مماثلة كي تخفف عنها وطأة الأزمة.
وفي أحيان أخرى تصطدم عائلة الدبلوماسي بعادات جديدة عندما تنتقل من بلد منغلق إلى بلد آخر منفتح تماما. ومع تبدل القيم وتغير مفاهيم الأخلاق والمعايير قد يصل الأمر ببعض الأبناء إلى الإصابة بصدمات نفسية تدفعهم إلى العزلة بشكل ما عن المجتمع والانزواء بعيدا عنه.
وأكدت حرم دبلوماسي مصري آخر أن الناس تعتقد أن حياة الدبلوماسي سهلة وأنها عبارة عن حفلات ومراسم وسفر ومرح، وقد تكون هكذا بالفعل في الظاهر، غير أن هناك وجها مختلفا صعبا يخص الأسرة بكافة أفرادها، فالعالم المحيط بها يفرض عليها لغات جديدة وعادات غريبة، وفي بعض الأحيان متناقضة مع القيم التي تربت عليها الأسرة، ما يُحدث نوعا من التخبط والتشويش داخل وجدان الأبناء، خاصة عندما يكونون صغارا.
الموجع أن ما يعاني منه الأبناء في هذه اللحظات، أنهم يواجهون تحديا كبيرا يتمثل في ضرورة الحفاظ على هويتهم من التشتت والذوبان، والحفاظ على معتقداتهم ومنعها من الانسلاخ عن عقولهم.
وتتضح تلك المشكلة بصورة أكبر في ظل بلوغ الأبناء مرحلة المراهقة، ورغبتهم في الاستقلال النسبي عن الأسرة، والاختيار الشخصي لأسلوب الحياة وطريقة التفكير، ما قد يحمل نوعا من التمرد منهم تجاه آبائهم.
وتتجاوز المشكلة لدى عائلات أخرى موضوع الصداقات والعادات والتوتر النفسي، وتنصب على الارتباط بمستويات معينة من التعليم، والتأقلم مع مدارس ومدرسين بعينهم، فينشأ صراع مبكر لدى الأطفال بين جذورهم التعليمية والارتباط الوثيق بالأسرة.
وتلجأ بعض الأسر إلى ترجيح كفة التعليم على الترابط الأسري لتسمح لأبنائها بالبقاء في الدول التي ارتبطوا فيها بتعليم محدد، تاركين الأسرة تواصل تحركاتها مع عائلها نحو مكان آخر وفقا لمقتضيات منصبه الوظيفي.
وقال السفير جمال بيومي مساعد وزير الخارجية المصري سابقا، لـ”العرب”، إنه اضطر إلى أن ينفصل عن أبنائه خلال فترة عمله في ألمانيا لارتباطهم بالتعليم في بريطانيا، وكان ذلك قاسيا عليه وعلى زوجته، لكنه ترسخ في عقلهما أن الأقسى هو تغيير مسارات تعليم الأبناء بسبب ضرورة وسرعة التنقل من بلد إلى آخر.
وأوضح أن المكسب الحقيقي لأسر الدبلوماسيين يتمثل في إتاحة الفرصة أمامها لتعليم الأبناء تعليما جيدا ومميزا، حتى لو تحملت الأسرة تكاليفه، ما يعد استثمارا جيدا لعائلات الدبلوماسيين، لذا فتحمل انفصال بعض أفراد الأسرة، كالابن أو الابنة، لاستكمال التعليم بنوعية مميزة أفضل من التغيير.
وإذا كان البعض يعتبر أن إلحاق الأبناء بمدارس معروفة ولها وجود في كافة دول العالم، مثل المدرسة الأميركية أو البريطانية أو غيرهما، يعتبر حلا مثاليا يُجنب عائلات الدبلوماسيين التشتت والانفصال، فإن السفير بيومي قال إن أجور الدبلوماسيين ومخصصاتهم في بعض الدول العربية قد لا تفي بمصروفات هذه المدارس التي تعد مرتفعة نسبيا، مؤكدا “أنهم يدعمون الدبلوماسي، لكن بقدر بسيط، وفي الغالب يعمل ليدفع معظم ما يتحصل عليه نظير تعليم الأبناء”.
سمات مميزة

ويرى البعض أن تنقل الدبلوماسيين المتكرر يصب في مصلحة الأبناء، إذ يؤدي ذلك إلى تنويع الثقافات واتساع الآفاق وزيادة القدرة على التعامل مع المتغيرات والأمور الطارئة، كما أن حيوات الدبلوماسيين تمثل مفرخة جيدة للابتكار والتأقلم مع المستجدات والتعايش مع الثقافات المختلفة.
ويلاحظ أن أبناء الدبلوماسين يميلون إلى التفكير بصورة عملية أكثر من غيرهم، ويهتمون بتفاصيل الأمور ويتقبلون النقد بصدر رحب، ولديهم اهتمام كبير بالآخر وثقافته ويحترمون حريته في الاعتقاد والتفكير، ومؤهلون أكثر من غيرهم لوظائف ومهن بعينها.
وكشف بيومي أنه لا يستغرب عندما يشارك في اختبار الدبلوماسيين الجدد بوزارة الخارجية المصرية، أن معظم الخريجين الشباب المقبولين من أبناء الدبلوماسيين الذين اعتادوا اختلاف وتنوع الثقافات، فهُم الأجدر على تفهم طبيعة عمل الدبلوماسي.
ولا يقتصر الأمر على العمل الدبلوماسي، فهؤلاء مؤهلون للكثير من الوظائف الصعبة ذات البعد العالمي، بسبب سماتهم المميزة وإتقانهم للغات عديدة نتيجة تعايشهم مع بلدان وشعوب تتحدث تلك اللغات كلغات وطنية.
وهُنا فهم أقرب للحصول على الوظائف النادرة لدى الشركات العالمية التي تبحث باهتمام عن متقني اللغات وتفضلهم على أصحاب مهارات يمكن اكتسابها عن طريق التدريب.