التكنولوجيا تفتح الباب أمام الإبداع في المعمار

حقق مجال الهندسة المعمارية قفزات واسعة في العقود الأربعة الماضية مدفوعا بوتيرة تطور سريعة، وحملت تكنولوجيا البناء والتصميم تغيرات طارئة على حياة البشر على المستوى الحضاري أو عبر اقتحام جوانب نفسية ومادية حققت طفرة غير مسبوقة لكنها في الوقت نفسه خلقت تحديات جديدة.
يُنظر إلى أبنية عظيمة وعريقة، مثل الأهرامات بمصر أو مباني المعماري الإسباني أنطوني غاودي في برشلونة أو قصر فيرساي بفرنسا، على أنها أيقونات وعجائب لا مثيل لها. وتمثل المنشآت التاريخية إنجازات فذة لاعتبارات تتعلق بضعف إمكانيات البناء والإنشاء حينها، لكن تأثير التكنولوجيا في الهندسة المعمارية في العصر الحالي يتعدى مجرد الإبداع البشري لتعززه الثورة التقنية.
وأثار إعلان الصين بناء مستشفى كامل من ألف سرير في غضون ستة أيام لمواجهة خطر تفشي فايروس كورونا الكثير من التساؤلات حول مدى تطور القدرات التكنولوجية الحالية في تسهيل تلك المهمة الهندسية.
وصنعت التكنولوجيا ثورة حقيقية في عالم الهندسة المعمارية، حيث أحدثت تغيرات حقيقية ضمن مشاريع بناء كان تنفيذها يبدو خيالا قبل عدة عقود. وسرعان ما غيرت بشكل كبير حياة الإنسان مع ارتباطها بمجال المعمار، بداية من المسكن والأماكن العامة مرورا بمقر العمل.
تنافس على الإبداع
وعلى الرغم من تعدد التحولات التي طرأت على المجال الهندسي، ظل التطور الأبرز يتعلق بتحول المهنة إلى منافسة فنية إبداعية، انعكست على كل ما هو موجود على سطح الكرة الأرضية.
يقول محمد عبدالشكور أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة عين شمس في القاهرة لـ “العرب”، إن اقتحام التكنولوجيا مجال الإنشاء حول بعض المهندسين إلى نحاتين ورسامي لوحات، بعد أن باتت المنافسة الحقيقية ليست في إخراج تصميم لمبنى ما، لكن في كيفية تنفيذه بصورة ملفتة، وماهية النواحي الإبداعية حوله.
ويختلف مجال المعمار عن غيره من مجالات تشابكت مع التكنولوجيا سريعا، في كون تطوره الرقمي بُني على البرامج الذكية أو ما يعرف بالهندسة الرقمية حيث منحت التكنولوجيا للمهندس المعماري أدوات سحرية لتصميم مشاريعه وأفكاره على عكس مجالات أخرى اعتمدت بالكامل على الذكاء الاصطناعي أو الإنترنت سواء مواقع أو تطبيقات إلكترونية.
حققت البرامج الحاسوبية تغيرا لأسباب تتعلق بانسيابية العمل والتلاحم مع الرسم المعماري إلى جانب إنجاز العمل الأساسي على الأجهزة الحاسوبية وارتباطها برسم خطوط هندسية ثم احتساب المساحة والارتفاع.
منذ نهاية القرن العشرين، ظهرت برامج حسابية كان أولها برنامج “أو.أو.بي”، الذي سرعان ما خرجت بعده العشرات من البرامج التي باتت أكثر تخصصا في التصميم والقيام بأعمال معينة لها علاقة بالبناء الخارجي أو الداخلي للمبنى.
وكان أشهر البرامج التي حققت انتشارا واسعا، برنامج “أوتوكاد” ومهمته الأساسية الرسم والتصميم بمساعدة الحاسوب بدعم رسومات ثنائية وثلاثية الأبعاد.
أوضح عبدالشكور أن أهم ما صنعته تلك البرامج هي أنها أضحت قادرة على تحويل كل فكرة تطرأ على عقل المعماري إلى واقع ملموس، وسهلت من عملية التنفيذ والرسم والتصميم في أيام قليلة بعد أن كان المعماريون يجلسون لأشهر من أجل تصميم غرفة في مبنى يدويا.
وأشار الأكاديمي المصري إلى أن سهولة التصميم نقلت المنافسة المعمارية من مربع السرعة والدقة في التنفيذ إلى مربع التنافس على الإبداع في شكل وهيئة المبنى المطلوب. وأصبح العالم كله يتنافس في بناء المباني الأجمل لجذب الانتباه وإبراز جمال الدولة أو المدينة، وجزء من تراثها وثقافتها عبر تصميمات عصرية حية.
ولعل المعمارية العراقية الراحلة زها حديد تعد النموذج الأشهر، بعد أن اشتهرت بتصميماتها بالغة الجمال والتعقيد في البناء، ومن أبرز أعمالها مركز “فاينو” للعلوم بألمانيا، ومبنى سيارات “بي.أم.دبليو”، ودار الأوبرا في غوانزو في الصين، وجسر الشيخ زايد بالإمارات والبنك المركزي العراقي.
لم ينته دور البرامج الذكية عند المساعدة في التنفيذ، لكنها فتحت آفاقا أوسع لتصميم أعمال شديدة التعقيد والتشابك، وتحمل رمزيات فنية بالغة الجمال والإبداع.
وأكدت المهندسة المعمارية ليلى موسى أن التصميم الهندسي بات مسألة تهم الجميع لأن الناس يريدون رؤية مدينتهم جميلة وجذابة، وهذا لا يحدث إلا بتصميمات بديعة تلاقي طموحات العامة.
وأضافت موسى لـ “العرب”، لم يعد المنشأ المعماري مجرد شكل أصم، لكن يدخل المئات في منافسة شرسة لربط المبنى بحضارة وتراث وتاريخ المدينة، ليصبح المبنى بعد ذلك مقصدا سياحيا يتسابق الأفراد من أجل التقاط صور فيه. وبفضل التكنولوجيا ظهرت على سطح الأرض مبان خيالية، مثل برج خليفة بالإمارات وأبراج التجارة في نيويورك بعد إعادة تصميمها، وبرجي كوالامبور في ماليزيا.
ولفتت موسى إلى أن أبرز الثورات الفنية في عالم التصميم الهندسي في العقود الأخيرة، تغير سمة رسم المبنى من الداخل إلى الخارج، حيث قالت “في الماضي كان المعماري يرسم المبنى من الداخل أولا حتى يستطيع في نهاية المشروع رؤية المظهر العام للتصميم”.
وأضافت “وتسبب ذلك في تراجع الشكل الجمالي الخارجي على حساب التصميمات الداخلية، لكن التطور الضخم في البرامج الحاسوبية أفسح المجال لتصميم الوجهة الخارجية أولا قبل أن يربط البرنامج ما تم تصميمه بالشكل الداخلي للمبنى”.
وإذا كان البعض يعتقد أن التكنولوجيا مثلت جسرا بين الماضي والحاضر في مجال المعمار، فهناك من يعترضون على تلك المقولة، ويرون أن التكنولوجيا قدمت وجها مشوها من التراث في صورة مبنى عصري.
وتقدم نماذج المباني المستلهمة من المسارح الرومانية حول العالم مثالا على ذلك، إذ أن أغلبها متهم بتشويه المنظور المعماري للحضارة الرومانية. ويرى البعض أن الرغبة الملحة في ربط المنشآت بأي نموذج تاريخي قديم سواء كان فرعونيا أو يونانيا أو نسبه لفنون مسيحية غربية أو إسلامية شرقية، قدم هيئة خاطئة وسطحية وقبيحة من الرموز التاريخية في صورة مبان.
تكمن أزمة التكنولوجيا في أنها أعطت للمعماري أدوات سحرية لإخراج أي تصميم هندسي، ووضعته أيضا أمام تحديات الوقت والسرعة في التنفيذ. وتسببت تلك المعضلة في التسرع في إنتاج رسومات لها أبعاد رمزية بصورة غير دقيقة ودون تفحص حقيقي في طبيعة ما يتم إنشاؤه ومدى ارتباطه بالتراث.
وصنعت التكنولوجيا المعمارية طفرة في حياة البشر في العقود الأخيرة، وتغلبت على العشرات من الأزمات التي تواجه العالم من فقر وانخفاض المساحات في المدن الكبيرة.
تطور المباني
ظهرت أنماط متعددة مع تطور شكل المباني. وبفضل التصميمات الذكية بات هناك استغلال أفضل لمساحات الغرف والشقق السكنية، بعد أن كانت مهدرة بسبب أخطاء في تصميم الهياكل الأساسية والأعمدة الرافعة.
وبفضل تكنولوجيا “تي.آر.إتش” المبرمجة ظهرت اهتمامات أخرى لم تكن توضع بالكامل في حسابات المعماري، مثل مناطق التهوية الأفضل، وطرق الإنارة الطبيعية بصورة تملأ صحن المنزل بالكامل. وبرزت تطورات أعلى في قدرة خلق مخارج ومداخل أفضل للمناطق الفقيرة أو الشقق والغرف صغيرة الحجم بصورة تقلل من الشعور بالضيق النفسي.
سهل تطور مواد البناء أيضا عمل المهندس المعماري حيث استطاع توفير مسكن أقل تكلفة وأكثر أمانا وأطول عمرا، بفضل استخدام مواد جديدة مثل الأرضيات المكعبة “إتش.دي.أف” بدلا من الخشب، واستخدام السيراميك المعدل بدلا من استخدام الحجارة عالية التكلفة.
وحولت صيغة البيوت الذكية المنازل لشبكة مترابطة من غرف ومصادر طاقة وتوصيلات للمياه والغاز من خلال شرائح ذكية ساهمت في تقليل التكلفة المرتفعة لرسوم المنزل أو المنشأة وعززت نظم الأمان ضد السرقات.
يرى معماريون أن تطور تكنولوجيا البناء ساهم في صناعة بيوت ومبان أكثر فاعلية، حيث أثر على الفراغ المعماري وتكوين المساحة من حيث الشكل والحجم، فظهرت الفراغات الواسعة وإمكانية البناء والتوسع الأفقي والرأسي.
ومن أبرز الميزات في العقد الأخير، الاهتمام بالشق الأمني والسلامة العامة للمشروع الهندسي، مثل مقاومة تسرب المياه والحرائق والظواهر الطبيعية إذ ظهرت ثورة في اختيار المواد المستخدمة في البناء، بعد أن كانت مقتصرة على الطوب والحجر والخشب والحديد لتشكيل الهياكل والألواح والبلاط لتغطية السطح، والرصاص وأحيانا النحاس من أجل العزل المائي والكهربائي.
وأصبح البناء الحديث أكثر تعقيدا مع الجدران والأرضيات والأسقف المبنية كلها من عديد العناصر لتشمل الهيكل والعزل ومقاومة تسرب المياه مثلا، والتي في الكثير من الأحيان تشمل استخدام طبقات منفصلة ومتعددة.
ونجح المعماريون بفضل التكنولوجيا في تطوير سبل الأمان في المنشآت الإدارية والصناعية، مثل المصانع والمستشفيات، واقتحام مجالات مختلفة وتوفير بيئة صحية.
وركز المهندسون في مواجهة الأزمات الأساسية التي تتعلق بالمجال الصناعي، فزاد الاهتمام بمكافحة الحرائق في المصانع باستخدام مواد غير قابلة للاشتعال، وتنفيذ تصميم يحمي العامل في حالة نشوب حريق ضخم عبر تأمين مخارج متعددة وتركيبات تقلل من تفشي الحرائق سريعا. وفي مجال الصحة، اهتم المعماريون باستخدام طبقات عازلة ومواد معالجة تحافظ على البيئة الصحية للمستشفى وتحمي من الميكروبات والجراثيم، كما اهتموا بتوجيه المبنى في اتجاه حركة الرياح بصورة توفر هواء طبيعيا للمريض وتهوية صحية، وتخفيف الأضرار الناجمة عن عوامل الطبيعة.
ولم يتوقف المجال المعماري عند الاهتمام بالتصميم فقط للمبنى، بل استغل القدرات التكنولوجية الهائلة في تنفيذ الديكور المناسب من خلال دمج وإفراز مواد ودرجات ألوان غير مسبوقة في تقديم أشكال مميزة توفر الراحة النفسية للمرضى.
وتحول اللون الأزرق والأصفر لجزء من تصميم غرف الأطفال المصابين بمرض السرطان لما يحملانه من تأثير نفسي إيجابي على الصغار، بينما اختير اللون الأبيض في غرف الغسيل الكلوي لمساعدة المرضى على تحمل الساعات الطويلة من العلاج.
تحديات معمارية
رغم إيجابيات التكنولوجيا في المعمار، فرضت التطورات الرقمية تحديات معقدة أيضا على المهندسين المعماريين، ومن بينها سطوة البرامج الإلكترونية على شق كبير من مهام المهندس في السابق.
وتسبب تطور قدرات البرامج الهندسية بوتيرة متسارعة في تقليل مهام المهندس المعماري إلى درجة فرضت على شركات كثيرة تخفيض أعداد الموظفين لعدم الحاجة إلى خدماتهم. وبات المعماري مطالب بمواكبة التطور السريع في المجال المعماري عبر تلقي دوارات تدريبية باستمرار من أجل تعلم استخدام البرامج الجديدة.
ويبقى الزخم الحالي لتكنولوجيا المعمار مركّزا على تطوير أدوات حماية البيئة. ويسعى العلماء لتطوير برامج وآليات صناعية قادرة على تقليل التلوث الناجم عن عمليات البناء إلى جانب دعم البيئة والمساحات الخضراء على حساب الزحف العمراني.
ويحاول المعماريون استخدام مواد صديقة للبيئة، إما باختيار مادة صناعتها قليلة التلوث وإما باستخدام مواد لا تنتج عنها رواسب مضرة بالبيئة أو مواد تصعب إعادة تدويرها أو التخلص منها.
ويتم التركيز حاليا على إيجاد بدائل لصناعتي الفولاذ والإسمنت بسبب ما تنتجانه من انبعاثات ضخمة من الكربون. ويحاول العلماء تجنب تلك المشكلة البيئية المعقدة باستبدال المواد المضرة بتدوير “الخردة” المعدنية عن طريق صهرها في فرن القوس الكهربائي بدلا من أفران الوقود. كما يتجه البعض الآن نحو استخدام وقود الهيدروجين كبديل عن فحم الكوك الذي يقلل الانبعاثات الكربونية بنسبة 40 في المئة.
وتحمل التكنولوجيا الآن لواء حماية البيئة والإنسان ليكون بمقدورها زيادة فاعلية المنافسة، والاستفادة من التطور لصالح البشر بدلا من التأثير السلبي عليهم. ويبقى التحدي الحقيقي في تجنب افتكاك التكنولوجيا لأدوار البشر في مجال لطالما ارتبط بأفول الحضارات وواجهة للمستقبل المشرق.