التفويت في المؤسسات المصادرة بتونس.. حل وليس تهمة

لا يفتأ الرئيس التونسي قيس سعيد يظهر تمسكه بالمؤسسات الحكومية، ورفض التفويت فيها للقطاع الخاص، ويهاجم الذين عملوا على إفلاسها من أجل بيعها بثمن بخس، وهذا الأمر يتعلق بصفة خاصة بالشركات المصادرة، وهي المؤسسات التي كانت تتبع مقربين من الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وحصلت الحكومة على حق إدارتها فأوصلتها إلى حالة إفلاس.
الحفاظ على أملاك الدولة شيء مهم، فذاك عنصر قوتها وأحد أسباب اعتمادها على الذات. لكن هذا إذا كانت المؤسسة الحكومية في وضع سليم وقادرة على تحقيق مكاسب للدولة وللموظفين الذين يعملون بها. لكن الشركات المصادرة، وكثير من الشركات الحكومية الأخرى، تعيش الآن وضعا ماليا صعبا.
وبقطع النظر عن الذين يقفون وراء إفلاسها، فإن النتيجة أن الدولة ستجد نفسها مجبرة على إحياء جسد ميت، وضخ الأموال كأجور للموظفين ودفع التأمين وخلاص الديون، وهي بالملايين في الغالب، فقط حتى لا تترك بعض المؤسسات مغلقة، أو تسمح ببيعها للقطاع الخاص.
◙ تونس لا تحتاج الآن إلى المزيد من الإنفاق لإحياء النماذج القديمة، رغم ما قد تلاقيه من هوى لدى أجيال الستينات والسبعينات التي عايشت مرحلة صعود الشعارات الكبرى ولاحقا تهاويها في تجارب عربية كليانية
من حق الدولة أن تدافع عن شركاتها، وأن ترفض مسار الخصخصة إذا كان هذا توجها رسميا. لكن بالمنطق ما الذي يدفعها إلى أن تنفق ملايين الدينارات على شركات غير موجودة سوى بالاسم.
إذا كان لديها مال وتريد أن تفتح شركة أو مؤسسة لتشغيل موظفين جدد، فيمكنها ذلك، على أن تبدأ من الصفر، وتفرض ضوابطها على الإدارة والموظفين وتفرض شعاراتها خاصة ما تعلق بنظافة اليد ومنع المحسوبية في التوظيف.
في المقابل، فإن إحياء شركة ميتة سيكون بمثابة هدية للذين عملوا فيها وخربوها بالكسل والتواكل وشغّلوا فيها أبناءهم وأقاربهم ومعارفهم كما يحصل عادة في المؤسسات الحكومية، حيث يتم التوظيف بالواسطة والمحسوبية، واستجابة لهاتف من فلان أو رد جميل علان كان قد وظف أحد معارف من سيرد له الجميل بإغراق المؤسسة الخربانة بالموظفين.
كلما استعجلت الدولة التونسية ملفات التفويت، أزالت عن نفسها عبئا ماليا وإداريا كبيرا، خاصة أنها تعيش أزمة مالية حقيقية، ولا تمتلك ترف الإنفاق على مؤسسات من الصعب إحياؤها بعد أن فقدت اسمها وسطا المنافسون على سوقها.
ولأن الحكومة لديها مشاغل وتحديات كثيرة، من الأفضل أن تترك هذه الشركات لرجال أعمال لإدارتها، حتى لو بيعت بسعر رمزي فإن الدولة التونسية تبقى رابحة لأنها ستوفر لنفسها رواتب ومصاريف وخسارة قد تمتد لأشهر أو سنوات.
الأفضل أن لا تنظر الدولة التونسية إلى القيمة الدفترية لهذه المؤسسات، وخاصة ألا تستمع إلى المزايدات الحزبية والنقابية بشأن مصير المؤسسات التي باتت مهملة بسبب الفساد وسوء الإدارة، ووجود نية لإفلاسها والتفويت فيها للخواص بأثمان بخسة.
الدولة تقيس بمنطق المصلحة، ليست حزبا سياسيا أو نقابة لتزايد أو تناور أو تسعى للانتخابات بإثارة حماس الناس للتأميم، وإن كان من واجبها أن تفتح تحقيقات قضائية حول من قام بذلك وتحاسبه وتكشفه للناس مثلما جاء في حديث الرئيس سعيد قبل أيام عن إحدى الشركات المصادرة حين قال “يتم عمدا تخريب هذه المؤسسات بهدف التفويت فيها ليس بثمنها الحقيقي ولكن بالثمن الذي يحدده من يسعى للاستحواذ عليها”.
من الصعب أن تتولى الدولة التونسية إصلاح أخطاء الماضي كلها بمختلف تفاصيلها، وأن يشرف الرئيس سعيد على تصويب كل شيء بنفسه، ومع كل حالة يقول لنا انظروا فساد من سبقوا. هذه أمور يعرفها التونسيون حق المعرفة، وهي ليست وليدة مرحلة ما بعد الثورة، وإن كانت زادت واستفحلت بعد أن ضعفت الدولة.
◙ إحياء شركة ميتة سيكون بمثابة هدية للذين عملوا فيها وخربوها بالكسل والتواكل وشغّلوا فيها أبناءهم وأقاربهم ومعارفهم كما يحصل عادة في المؤسسات الحكومية
من المفروض أن تفكر الدولة في المستقبل وتضع له الخطط والبرامج، لا أن تقف عند حدود الماضي، حتى لو كان ذلك مبررا لدى الرئيس لإقامة المقارنة مع السابقين، وأن يظل في صورة الرجل النزيه الذي يعارض الفساد والمحسوبية وينحاز للدولة ومكاسبها. لكن وقت المقارنات طال أكثر من اللازم، ومن المهم أن يتغير المسار بالنظر إلى الأمام.
لقد وقف الناس مع قيس سعيد كليا ضد الطبقة السابقة. ويحتاج الآن أن يقفوا معه من أجل برامجه وأفكاره ومبادراته ومشاريعه على الأرض، فهذا هو مقياس الناس طويل النفس.
يمكن بالأموال التي سترصد لإحياء شركات مصادرة أو شركات حكومية فاشلة أن تستثمر في مشاريع جديدة، وضخ تمويلات للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحسين مناخ الاستثمار من أجل توفير مواطن عمل لخريجي الجامعات ومراكز التكوين والمتسربين من مستويات التعليم المختلفة، الذين لا يجدون من خيار أمامهم سوى المغامرة بالهجرة غير النظامية.
الأموال التي تنفق سنويا لتغطية عجز الشركات الحكومية يمكن أن تعطي فرصة مريحة للدولة لإظهار عمقها الاجتماعي من خلال رصد ميزانية لا بأس بها لدعم صندوق التعويض، وخاصة تقديم المساعدات للفئات الفقيرة ومحدودة الدخل مثلما حصل منذ أيام بدعم نصف مليون تلميذ عبر مضاعفة المنحة المقدمة إليهم.
لو أن التقارير الحكومية تقول إن شركة من عشرات الشركات الحكومية التي تضخ لأجلها الملايين بدأت بالتعافي، وقتها يمكن الحفاظ عليها ودعمها، أما الشركات التي تطلب الدعم دائما فالأولى أن ترتاح الدولة من أعبائها، ولا يضرها في شيء أن تفوت فيها للقطاع الخاص.
يشير آخر تقرير نشرته وزارة المالية التونسية إلى أن إجمالي ديون الشركات الحكومية بلغ حوالي 19.4 مليار دينار (6.4 مليار دولار) حتى يونيو 2022، مقابل 18.7 مليار دينار في كامل عام 2021.
ليس مهما ما ستقوله الأحزاب واتحاد الشغل بشأن التفويت في المؤسسات، فالجميع لديه ضلع بنسبة ما فيما وصل إليه الوضع.
لكن من الواضح أن الرئيس التونسي ينتصر لنموذج الدولة التي تنتج وتشغّل وتمول وتوفر الخدمات المختلفة للناس، أي دولة اشتراكية بالمفهوم الكلاسيكي، ولذلك هو يدفع نحو الشركات الأهلية والعمل التشاركي.
◙ من حق الدولة أن تدافع عن شركاتها، وأن ترفض مسار الخصخصة إذا كان هذا توجها رسميا. لكن بالمنطق ما الذي يدفعها إلى أن تنفق ملايين الدينارات على شركات غير موجودة سوى بالاسم
وبقطع النظر عن صواب هذا التمشي وملاءمته للقرن الحادي والعشرين، فإن هناك صعوبة ستواجهه في تونس التي لا تمتلك النفط أو الغاز لتنفق بسخاء مثل الجزائر أو ليبيا في نماذج اقتصادية تفكر فقط بشراء السلم الاجتماعي، وإسكات الناس بالإنفاق السخي دون تفكير في الأجيال القادمة.
لا تحتاج تونس الآن إلى المزيد من الإنفاق لإحياء النماذج القديمة، رغم ما قد تلاقيه من هوى لدى أجيال الستينات والسبعينات التي عايشت مرحلة صعود الشعارات الكبرى ولاحقا تهاويها في تجارب عربية كليانية، من مصر إلى العراق إلى سوريا والجزائر وليبيا.
قيس سعيد في وضع لا يسمح له بإحياء النماذج التشاركية القديمة، ليس فقط بسبب الأزمة المالية، ولكن لطبيعة تونس وإمكانياتها وتجاربها السابقة التي أظهرت أن قدر تونس هو الانفتاح على العالم وجلب الاستثمارات واستقطاب السياح، أي نموذج ليبرالي يعيش من انفتاحه وليس بانغلاقه.
ويمكن أن يتلقى هذا النموذج دفعة إيجابية كبيرة من الحرب التي يقودها الرئيس سعيد على الفساد ولوبيات الاحتكار ودوائر النفوذ الكلاسيكية للدولة العميقة. حرب تحرر إمكانيات البلاد من أجل استقطاب الاستثمارات واستعادة صورتها الليبرالية الجاذبة عربيا ودوليا.
قد تتأخر هذه الخطوة بعض الوقت، ولكن الرئيس سعيد سيجد أن هذا المسار هو الحل عاجلا أم آجلا.