التفاعلية فن مراوغ ينبئ بثورة كبرى

مستقبل الرواية العربية ليس بيد كتّابها بل بيد مجموعة من المبرمجين لا علاقة لهم بالإبداع الأدبي.
الأحد 2020/06/28
الرواية تطور للأساطير والملاحم (لوحة للفنانة هبة العقاد)

لم يعد مصطلح التفاعلية (Interactive) غريبا على آذاننا، بتنا نتداوله في سياقات عدة: ثقافية واجتماعية واقتصادية بل وعلمية كنتيجة لاحتشاد السموات بالأقمار الصناعية، لما لها من قدرة على ربط شبكات البيانات الرقمية والصوتية ببعضها البعض، لتضعنا في مواجهة مجتمع واحد ومتفاعل يطلق عليه “القرية العالمية” ومن خلالها يمكن لشخص واحد مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يطالعنا في كل لحظة بأفكاره وقراراته بل ومشاعره الشخصية لتصبح موضوعا للعالم كله عبر ردود أفعال متباينة ومتقاطعة في آن. العالم أصبح هكذا مكشوفا ومتاحا فكل شيء يحدث هنا والآن.

سيد الوكيل

لم تعد التفاعلية مقتصرة على العلاقات البشرية فحسب، بل تنسحب أيضا على الأفكار والخبرات والمعارف والفنون والآداب وطرائق التعبير عنها، بل والعلوم التي ارتبطت دائما بالتخصص الدقيق تتكامل الآن في ما بينها على نحو تفاعلي، فلم تعد من الممكن دراسة تاريخ التطور البشري دون دمج علوم عديدة تختص بالجينات واللغة وعلوم الدماغ والأنثربولوجيا.

كما أن علم النفس الحديث يفتح نوافذ عديدة على مثل هذه العلوم المختلفة حتى لم يعد من الممكن عزله عن دراسات البرمجة العصبية التي تحكم السلوك البشري منذ الإنسان البدائي.

الواقع أن السعي البشري إلى التفاعل أقدم من زمننا هذا بكثير، حتى يمكننا القول إن التفاعل سلوك بشري مرجعه غريزة البقاء. ربما منذ أعربت حوّاء عن رغبتها في أن يشاركها آدم أكل التفاحة التي فعّلت شهوتيهما الموؤودة. أو منذ أن قررت أنثى “الهوموسبيانس” أن تتقاسم طعامها مع أطفالها، ثم مع إناث أخريات يشاركنها نفس المشاعر العاطفية تجاه أطفالهن كطريقة أكثر ضمانا لحفظ النوع الإنساني.

وبفضل هذه الممارسات الغريزية أدرك البشر أهمية التفاعل لتطور الحياة البشرية عبر أنظمة تعاونية من الاقتصاد أو الحماية، قد تبدو بدائية، لكنها أتاحت فرصة التفكير في ممارسات ترفيهية تمثلت في طقوس مرتبطة برحلات الصيد وحلقات الشواء حول النار والبحث عن آلهة وقوانين منظمة للعلاقات بل ولغة مشتركة تضمن درجة أكبر من التفاعل.

ثورة جديدة

الواقع الافتراضي في عالم الرواية
الواقع الافتراضي في عالم الرواية

ممّا سبق يمكننا فهم لماذا أقحم مصطلح التفاعلية نفسه في أكثر أدوات التعبير البشري خصوصية والتصاقا بالذات. ونعني به الأدب. فليس من قبيل المصادفة أن يشهد عام 2019 وحده ثلاثة مؤتمرات حول الرواية التفاعلية في القاهرة والأردن والمغرب. فضلا عن فعاليات أخرى محلية.

وكالعادة فكل جديد يثير جدلا بين حراس الأصالة ودعاة المعاصرة. غير أن الأمر هذه المرة، ليس مجرد اتجاه أدبي جديد أو تيار ما يحدث انحرافا طفيفا في مسار الأدبية بقدر ما هو ثورة تفوق ما أحدثته الكتابة في تاريخ البشرية.

ها هي ثورة التكنولوجيا تعد، بدورها، بتغيرات فادحة في أكثر أدوات التعبير عن أنفسنا خصوصية، بل وعن واقعنا المعيش لتفض بكارة العلاقة بين الذات المبدعة وبياض الورق. مع الوضع في الاعتبار أن كلمة الواقع – هي نفسها – لم تعد تنعم بهذا الوضوح المرتبط بالمجتمعات البشرية.

فبعد أن أصبحنا نمضي نصف ممارستنا الإنسانية عبر الواقع الافتراضي بما في ذلك إدارة أعمالنا وطرائق تعليمنا واستشارتنا الطبية وقيادة سيارتنا وإعداد طعامنا بل وعلاقاتنا العاطفية.. إلخ، يمكن القول إن الواقع الافتراضي المتفاعل على شبكات الإنترنت بدأ في التهام واقعنا المعيش الذي راهنت عليه فنون الحداثة.

من الطبيعي أنّ التفكير على هذا النحو يثير قلق الأدباء أو شهيتهم والذين يلاحقون كل حدث وكل دابة على الأرض بخيالهم الجامح. ولا تنس – عزيزي القارئ – أن الخيال هو أيضا واقع افتراضي. وكل ما ينتج عنه من كتابات أدبية تؤثر في الواقع المعيش وتغيره.

لهذا فساردو الحكايات هم الأقرب للهجرة إلى الواقع الافتراضي سواء اتخذوه موضوعا لرواياتهم على نحو ما نجد في روايتي “حارس الفيسبوك” لشريف صالح، و”كل أسبوع يوم جمعة” لإبراهيم عبدالمجيد، أو أفادوا من تقنياته كما نجد في رواية “إيميلات تالي الليل” (2011) التي نُظمت بالتراسل عبر الإيميل بين الكاتب المصري إبراهيم جاد الله والكاتبة العراقية كليشان البياتي لتدور أحداثها حول وقائع حقيقية ومعيشية للغزو الأميركي للعراق.

أما عن الأثر التخييلي الذي أمدنا به الواقع الافتراضي فحدث ولا حرج. إذ تكفي الإشارة إلى الانهمار المغرق من روايات خيال علمي ورعب وألغاز وخوارق فانتازية تستمد خيالها من السينما الأميركية التي أصبحت متاحة ومرئية لحظة عرضها بفضل المواقع المختصة على شبكة الإنترنت. كما أن برامج التصميم البصري والصوتي أصبحت متاحة في يد الناشئة. فبإمكانهم إضافة مؤثرات بصرية وسمعية على المشاهد الواقعية لتصبح شيئا غريبا ومنقطعة الصلة عن واقعها.

التفاعلية سمة أدبية

الوسيط الإلكتروني ليس ورقة بيضاء محايدة بل هو عقل آخر يقف في مواجهة الذات المبدعة وذات القارئ معا
الوسيط الإلكتروني ليس ورقة بيضاء محايدة بل هو عقل آخر يقف في مواجهة الذات المبدعة وذات القارئ معا

وفقا لمثل هذه المقدمات التي تشير إلى تغير كبير في التعاطيات الفنية والأدبية، يتولّد لدى النقاد شعور بالقلق على أنماط الرواية التي درجنا عليها منذ بدايات الحداثة. غير أن هذا القلق يحظى بفريق وسطي يسلّم به، ولكنه يقرأ هذه التحولات في سياق تاريخي واسع. ومن ثم يثير أسئلة من قبيل: ماذا سنفعل حتى لا نتعطل عن اللحاق بقطار المستقبل السريع؟ وهل نحن بتراثنا الأدبي مؤهلون لنصبح جزءا من مستقبله؟ وماذا عن حدود التجربة الفردية في الإبداع؟

في معرض كلامه عن رواية عربية تفاعلية يحذر الناقد المغربي سعيد يقطين من الخلط بين النوع والجنس في الأدب. وينسحب تحذيره على خطيئة الفصل بين تاريخ السرد العربي ومستقبله الإلكتروني. فيشير إلى أن تجارب الرواية العربية الحديثة أفادت من التراث العربي كما أفادت من الرواية العالمية وتفاعلت مع الواقع في قضاياه وتحولاته ونجحت في اقتحام مجالات السينما والدراما التلفزيونية. ويدعو في نهاية مقاله إلى “استثمار العجائب والخيال العربي الإسلامي الخصب في بناء تفاعلي جديد لا يهاب الكمبيوترات وتكنولوجيا الاتصال المختلفة”.

هجرة إلى الواقع الافتراضي
هجرة إلى الواقع الافتراضي

ونحن أميل إلى هذا الرأي الذي يتضمن إقرارا بأن التفاعلية سمة أدبية كانت موجودة دائما في الرواية بوصفها أدبا. فالخيال الروائي هو درجات من تفاعل المبدع مع واقعه المعيش وخبراته الشخصية ولغته وخياله. كل هذه أدوات للتفاعل سابقة على ظهور الوسيط الرقمي، ويمكنها أن تهذّب من جموحه. وهذا تصوّر مشروط بالوعي الذاتي للمبدع في استخدام الكمبيوترات. فالوسيط الرقمي ليس سوى منعطف كبير في حاضر البشرية. تماما كما مثلت كل من اللغتين الشفهية والمكتوبة منعطفات كبيرة في تاريخ البشرية فأنتجتا مستويات من التفاعل لم يعرفها الإنسان البدائي.

دعونا نتخيّل طرائق التعبير الفني للإنسان البدائي قبل أن يعرف اللغة. مجرد أداءات عفوية أفادت من إمكانات التعبير الحركي لمحاكاة رحلات الصيد وما شابه، أو أفادت من التعبير الصوتي للتحذير من الخطر شأن القردة التي تصيح وتدق على صدورها. لكن البشر حوّلوا هذا السلوك الغريزي إلى نظام شفري بالدق على الطبول والنفخ في الأبواق ليؤدي مهام التواصل بين الجماعات المتباعدة. كما أفادوا منه في طقوس العبادات الطوطمية التي تطورت في عصور الشفاهة إلى حكايات وأساطير اعتبرها أرسطو مقدمات أولى لفن المسرح ممثلة في عبادات “باخوس” إله الخصوبة وابتهالاتهم إلى نُصب يمثل عضوه الذكري.

وإذا أخذنا بالنظرية التي تذهب إلى أن الرواية المكتوبة هي التطور الطبيعي للأساطير والملاحم التي أُنتجت في عصور الشفاهة، فإن ابتكار الإنسان للكتابة يمثل منعطفا مهما في فنون السرد وتنوعها. وعليه يمكن تصور أن انتقال السرد من الكتابية إلى الرقمية سيفتح آفاقا شاسعة وربما لا نهائية، عندما تفضي إلى أداءات متفاعلة بين مستويات التعبير الثلاثة: الصوت والصورة والحركة.

الوسيط الإلكتروني

هذا تصوّر داعم لكلام سعيد يقطين عن الرواية العربية وقدراتها التفاعلية مع وسائط مختلفة كالسينما والتلفزيون بما يؤهلها للتعامل مع الكمبيوترات.

ومع ذلك فلدينا مستويات أعمق من التفاعل الداخلي في بناء النص المكتوب لا يمكن تجاهلها. وفي هذا يقول عبدالنبي اصطيف “إن الرواية تتفاعل بوصفها ممارسات دلالية متماسكة.

إنها تتجاور وتصطرع، وتتزاوج وينفي بعضها البعض الآخر، أو باختصار عندما تتفاعل نصيا، تتفاعل بوصفها أنظمة وعلامات متماسكة لكل منها دلالته الخاصة به” ويمكن رصد بعض أشكال التفاعل الداخلي على النحو التالي:

أولا تأتي البلوفونية في مقابل رواية الصوت الواحد، لتعزيز التفاعل الداخلي، الناتج عن أصوات متعددة أو أفكار ومعارف ومعتقدات وثقافات مختلفة تتلاقح في ما بينها.

سعيد يقطين: الرواية العربية الحديثة أفادت من التراث العربي كما أفادت من الرواية العالمية وتفاعلت مع الواقع في قضاياه وتحولاته
سعيد يقطين: الرواية العربية الحديثة أفادت من التراث العربي كما أفادت من الرواية العالمية وتفاعلت مع الواقع في قضاياه وتحولاته

ثانيا التناص باعتباره تفاعلا مع نصوص أخرى يفصح عن حضوره. كون النص جهاز نقل لساني وتواصلي كما تذهب جوليا كريستيفا.

ثالثا القارئ المضمر، وهو نتاج تفاعلي ذاتي للكاتب، يفترض حضور القارئ كرقيب أثناء فعل الكتابة.

وقد أكّدت نظريات القراءة دور القارئ في إنتاج النص عبر التفاعل مع دلالاته سواء كان ذلك مضمرا في وعي الكاتب أو حقيقيا مستقلا عنه. بما يعني أن التفاعل سلوك غريزي يدعم الوظيفة الإدراكية. وينتظر من الوسيط الإلكتروني أن يضيف آليات جديدة للتفاعل تتطلب من القارئ القيام بأداءات تتطلب – بدورها – خبرات ومهارات في التعامل مع الكمبيوتر.

فالنص الرقمي مفتوح بما يمكّن القارئ له من تفاعل يصل إلى درجة الإضافة على النص الأصلي والتدخل المباشر في توجيه مساراته. لكن هذا يعني أن النص الرقمي لن يكون ملكا لصاحبه! بقدر ما هو ملك لكلّ قارئ. هذا انعطاف خطير يجعل الكتاب ينظرون بقلق تجاه الرواية الرقمية التي تهدد فردانيتهم الإبداعية، وتحولهم إلى مجرد جزء من كلّ لا يعلمون إلى أيّ مدى يصل بالنص بعيدا عن مقاصدهم.

وفي نفس الوقت يضع القارئ أمام تحديات نص مراوغ محتشد بعلامات مؤهلة للتغير والتبدل والإضافة من قبل قراء آخرين وفي أيّ وقت. كما أنه مضطر إلى التسلح بأداءات مهارية فائقة للتعامل مع الكمبيوترات. غير أن النتيجة الحتمية لذلك، أن فعل القراءة نفسه سيتجاوز وظيفة التفاعل إلى وظيفية بحثية تمثل قيمة مضافة له.

صحيح أن النص الورقي عرف نمطا تفاعليا بالتشارك بين أكثر من كاتب في النص الواحد. ولعل ذاكرة الأدب العربي ما زالت تحتفظ بالتجربة المشتركة بين طه حسين وتوفيق الحكيم في نسج روايتهما “القصر المسحور” (1936) فحققت نمطا حجاجيا مترعا بالتأملات الفلسفية والتاريخية الطريفة حول ألف ليلة وليلة، وفي نفس الوقت محفزة لتفعيل النزعة البحثية لدى القارئ. وهذا يضمن مستويات تفاعلية أكبر من المضمون والمعنى.

لكن علينا تذكّر أن الوسيط الإلكتروني ليس كورقة بيضاء محايدة بقدر ما هو عقل آخر يقف في مواجهة الذات المبدعة وذات القارئ معا.

لهذا أعتقد أن التفاعل في الرواية الرقمية واعد بالكثير الذي لا يمكننا توقعه حتى الآن. وهو وعد مرتبط بتطور البرمجيات التي تفاجئنا كل يوم بجديد، بما يعني أن مستقبل الرواية الرقمية ليس بيد كتّابها، بقدر ما هو بيد مجموعة من المبرمجين لا علاقة لهم بالإبداع الأدبي. ونتيجة لذلك فإن معنى الأدبية نفسه سيكون معرّضا لتغيرات جذرية قد تطيح به في النهاية.

ويبقى سؤال أخير لا يمكن تجاهله: هل سيتمكن النقد بنظرياته الراسخة وأدواته القديمة من مواكبة هذه التغيرات الفادحة؟

10