التعويم والتسطيح يهددان الثقافة الفلسطينية وسط الطوفان الجماهيري

هناك الكثير من المغالطات التي تنتشر في غياب العقلانية والتفكير بعقل بارد، وقد تكبر هذه المغالطات إلى حدود غير معقولة كما هو حال "التطبيع الثقافي" الذي يرفعه بعضهم في وجه كل مثقف يتعامل مع الثقافة العبرية، في خلط كبير بين سياسة الاحتلال الإسرائيلية والثقافة العبرية.
مع كل مرة تندلع فيها المواجهات الميدانية بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي يكثر الحديث في الأوساط الإعلامية والثقافية العربية عمّا يعرف بـ”جبهة مقاومة ثقافيةّ”، وما يتفرع عنها من تلوينات وتهويمات، وحتى تهيؤات تزعم أن العرب مخترقون ثقافيا، وعليهم رص صفوفهم على مستوى "الجبهة الثقافية".
طبعا، يحضر هنا المزايدون للإدلاء بدلائهم، ورفع سقف المطالب والممانعات إلى حد التخوين، وإقامة ما يشبه محاكم التفتيش في حق "من تسوّل له نفسه" إقامة أيّ شكل من أشكال الحوار أو الانفتاح مع الجانب الإسرائيلي.
وبالمقابل فإن الطرف الآخر لا يكاد يترك كبيرة وصغيرة إلا وعرفها عن الثقافة العربية في تجلياتها الفكرية والأدبية والأنثروبولوجية، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث التي تستأنس إليها القيادات السياسية والعسكرية في بلادهم.
الإصرار على رفض غالبية من المثقفين العرب التعرف إلى الثقافة الإسرائيلية، مآله أسباب عديدة تبدأ بالتجاهل المستند إلى المكابرة الجوفاء، وتنتهي عند الخوف من التأثر ومن ثم الذوبان وفقدان الهوية والملامح.
وغالبا ما يقود هذا التيار المتشدد في الثقافة العربية أشخاص من ضعاف الموهبة يجلسون على كراسي مؤسسات ثقافية موالية للحكومات وتتمتع بـ"امتياز السلطة وشرف المعارضة".
وهكذا تقع شيطنة كل صوت يغرد خارج السرب ويسعى للحوار والانفتاح بدل التعامي والانغلاق فيتهمونه بـ”التطبيع مع العدو” وهو مصطلح لا يزال قيد الغموض والالتباس رغم مرور ما يقارب الربع قرن من ابتداعه بواسطة أقلام متربصة بكل ما هو إبداعي ومتفرد.
التطبيع الثقافي
ولأن ضجيج العامة يعلو دائما على أصوات النخب المتعقلة، فإن "محاربي التطبيع الثقافي" عادة ما يظهرون على شكل أبطال ومقاومين.. بما أن الأمر لا يتطلب شيئا غير السباب والتخوين.
وصل الأمر بـ"فرسان معركة محاربة التطبيع" إلى التصدي وبقوة، حتى إلى حركة الترجمة التي تعتبر أمتن وأبقى الجسور بين الثقافات، على مدى التاريخ. وما سرّ تفوق التراث العربي الإسلامي، وألقه الذي يفتخر به هؤلاء، إلا لحركة الترجمة التي سادت في العصر العباسي لأعمال من حضارات اليونان والفرس والهند.
◙ "سدنة محراب مقاومة التطبيع" يقيمون سورا بين الثقافة المحلية والعالم، ويحكمون على الذات العربية بالمزيد من العزلة
توسع مصطلح التطبيع لدى هؤلاء حتى صار يشمل كل المجالات والأنشطة البشرية فيما يشبه "حدودا تركض خلف حدود"، وتمنع مناصري الحوار والانفتاح من اختراق هذا الكم الهائل من الحواجز الوهمية.
ومع عملية "طوفان الأقصى" التي أظهر فيها الفلسطينيون بسالة خاصة واختراقا متميزا لآلة الحرب الإسرائيلية، عاد إلى السطح الحديث عن مقاومة التطبيع، لاعتقاد بعضهم أن نصرا ميدانيا، وإن كان جزئيا ومؤقتا، بإمكانه أن يغنينا عن ثقافة الحوار، ظنا من هؤلاء أن الانفتاح لا يقوم به إلا مهزوم ومتخاذل ومتعاون مع العدو.
على الصعيد الثقافي تمكن "سدنة محراب مقاومة التطبيع" من إقامة سور منيع بين الثقافة المحلية ونظيراتها في العالم، وحكموا على الذات العربية بالمزيد من العزلة والفوبيا الهوياتية التي لا تزيد الفرد إلا اغترابا وإيمانا بالآخر العدو، على شاكلة مواطني كوريا الشمالية في ظل نظامهم الدكتاتوري ذي النزعة العدوانية.
وهكذا ساهم هؤلاء في عزلة الثقافة الفلسطينية، وجعلوها مادة متحفية يقع استحضارها في المناسبات على شكل رقصات فولكلورية أو أعمال أدبية تكتفي بتمجيد الشهيد والانتصار للمقاومة وحدها، وكأنّ قدر الفلسطيني أن يرتدي بزة عسكرية طوال عمره، وتنزوي المرأة في ثياب الحداد، مرة واحدة وإلى الأبد.
التعويم السطحي
حيثما ولّيت وجهك هذه الأيام في شوارع تونس وبقية العواصم العربية، تستمع إلى الأغاني الثورجية، خصوصا ذات المستوى الفني المتواضع. وهكذا يقع تعميم البلادة والذائقة الفنية المتدنية باسم المقاومة ومحاربة التطبيع أي جعل علاقتنا بالإسرائيلي طبيعية، أليس كذلك؟
إذا كان كذلك فمن الطبيعي أن تكون علاقتي متوترة ويسودها الخلاف مع المحتل والمستغل إلى أن تنتهي أسباب الخلاف، لكن ذلك لا يمنع الحوار مع الاحتفاظ بالحق في الاختلاف الذي لا يُحلّ بالسلاح وحده.
الغريب أن رموزا ثقافية عديدة في المشهد الفلسطيني، نحتفي بها، نحيي ذكراها ونفتخر بمساهماتها، قد نجدها “مطبّعة” وفقا لمقاييس هؤلاء المحاربين الأشاوس.. فما العمل؟ ماذا نقول عن أدب غسان كنفاني وإيميل حبيبي وسينما ميشيل خليفي وإيلي سليمان، وكذلك شعر محمود درويش الذي لم يفقد يوما بوصلة الحوار حتى في قصيدته الأشرس “عابرون في كلام عابر”، والتي قامت بسببها الدنيا ولم تقعد في الكنيست الإسرائيلي، أثناء الانتفاضة الأولى، أواخر ثمانينات القرن الماضي.
هل أن "محاربي التطبيع" من الدونكيشوتيين المعاصرين، أكثر غيرة ووطنية من درويش؟.. يومها، ترجمت القصيدة إلى اللغة العبرية، وتوحّد اليسار واليمين في جبهة واحدة تحت ادعاء أنها تهدد الوجود الإسرائيلي وتدعو إلى إبادة اليهود ورحيلهم ونفيهم ورميهم في البحر. ومع ذلك اعتذر عنها الشاعر فيما بعد، واعترف بأنه قالها في لحظة غضب شديد.
جلّ ما نخشاه على الثقافة الفلسطينية خصوصا، والعربية بوجه عام، أن تضيع البوصلة بعد عملية “طوفان الأقصى” فيقع تعويم السطحي والأجوف وعديم القيمة الفنية وسط هذا الحماس الجماهيري المبالغ فيه.