التعصّب المجتمعي يهدد فنون الرقص الشعبي بالاندثار

تجتاح مصر موجة تعصب مجتمعي طالت جميع مظاهر الاحتفالات الشعبية على تلقائيتها وابتعادها عمّا يخل بالأخلاق العامة، كما حدث مع جمع من المدرسين على سطح مركب في النيل، حيث وقع التشهير بمدرّسة في وصلة عفوية من الرقص الاحتفالي. وزاد من حدة الموقف حالات التحريض على مواقع التواصل مما جعل الجهات الرسمية تتحرك وتحيل مجرد رقصة احتفالية إلى التحقيق، متناسية تاريخ البلد مع الرقص الاحتفالي.
تحرّكت وزارة التربية والتعليم في مصر بكامل ثقلها لإحالة خمسة معلمين على النيابة الإدارية للتحقيق معهم على إثر انتشار مقطع فيديو يظهر قيام مُعلمة بإحدى مدارس المنصورة، بوصلة رقص برفقة عدد من زملائها المدرسين على سطح مركب بوسط النيل.
وصلة الرقص هذه، هزّت مواقع التواصل الاجتماعي التي تعكس بالضرورة نبض الشارع المصري، إذ وصفه (المقطع) ناشطون بـ”الخادش للحياء” وتفاعل “رواد المواقع” بشكل غير مسبوق مع الفيديو، إذ اعتبروا أن المقطع “يعبر بشكل فاضح عن رداءة الزمن الذي نعيشه” وبأن كل شيء أصبح مباحا على حد قولهم.
الرقص جريمة
قادني الفضول الشخصي إلى مشاهدة هذا المقطع الذي وصفوه بـ”الفاضح” فوجدته لا يزيد عن لحظات مرح لزملاء المهنة دون أي إساءة للحياء العام كما يزعمون، ثم إن المدرّسة المتهمة بـ”الظهور الفاضح” قد ظهرت في لحظات مفرحة وبهيجة أمام نفر من المدرسين بغطاء رأس ولباس محتشم، دون أي حركة توحي بالابتذال والإثارة السوقية، فلماذا كل هذه الضجة في أرض تُعتبر مهد الرقص الشرقي منذ أيام الفراعنة؟

ولا بد من التذكير هنا بأن ما ظهر على الفيديو حول المدرّسة المصرية وزملائها هو وصلة من صنف الرقص الشعبي ذي البعد الاحتفالي العفوي، وليس لوحة من رقصة شعبية متكاملة العناصر الفنية والاستعراضية، أي أنه لحظة احتفال كان الأجدر بها أن تثير البهجة والمرح وليس الحنق والتشنج، إلى درجة “البكاء على ما وصلت إليه حال الأمة”.
هل أصبح مجرد التعبير بالرقص عن حالة احتفال بسيط ومتواضع، جريمة يعاقب عليها القانون بتهمة هزّ أركان المجتمع والاستهتار بقيمه الأخلاقية.
المشكلة أن هذه القضية ـ إن كان يحق أن نطلق عليها كلمة “قضية” ـ ليست زوبعة في فنجان وقع تضخيمها في السوشيل ميديا، بل هي من صلب اهتمامات قسم كبير من المجتمع المصري، ويتابعها أناس متحمسون لما يمكن أن تتمخّض عنه نتائج المحاكمة، آملين في أن “تقول العدالة كلمتها” في حق المدرّسة وزملائها المتجمعين في حفل فقير وبسيط على سطح أحد المراكب وسط النيل.
وجدت شخصيا أن مقطع الفيديو ينضح حياة وفرحا لحظة التفاعل مع تلك الوصلة العفوية ثم إنها “مصرية جدا” في احتفائها بالحياة رغم قسوتها على أمثال هذه الفئة من المدرسين الذين لا تسمح لهم ظروفهم بإقامة الحفلات في الفنادق الفخمة والمغلقة أبوابها في وجوه الفقراء، وأمام راقصات بطن شبه عاريات قادمات من دول أوروبا الشرقية.
هكذا تأتي هذه الراقصات غير الشرقيات لتعلم وممارسة وامتهان الرقص الشرقي، في ظاهرة أقل ما يقال فيها إنهن يبعن الماء في حارة السقّائين. وللتذكير فإنه وفي الثمانينات، بدأت راقصة هولندية شهيرة تدعى ماتا هاري باحتراف الرقص الشرقي وتداوله، وكان يسمى آنذاك “رقص سالومي”، وكانت أول أوروبية تتعلم هذا النوع من الرقص الذي انتشر في ما بعد انتشار الإشاعة والنار في الهشيم.
أين ذهب السقاؤون إذن؟ ولماذا جفّت قربهم وأغلقت حواريهم، حتى يستبيحها الغرباء والدخلاء، ويكتفون هم بالتفرج والاستهلاك. لا يكتفون بذلك بل يلعنون كل من يستنهض المهنة ويمنعها من الاندثار.
مصر بلا أهرامات
حين دخلت محرك البحث على الإنترنت مقتفيا أثر آخر ما وصلت إليه قضية “المدرّسة التي ترقص دون حياء” على حد تعبير المتحجرين، وجدت إلى جانبها على صفحة الموقع، لوحة شهيرة لمستشرق فرنسي شاب عاش في القاهرة منتصف القرن التاسع عشر، وهو جان ليون جيروم، الذي تتلمذ على يد الفنان بول ديلاروتشي.
يقدم جيروم ضمن لوحته الراقصة المصرية في أجمل تجلياتها عبر اللون والتشكيل الجسدي، وكانت نساء الغجر وقتها، يؤدين الرقصات للسياح والأوروبيين المستشرقين وكل من يأتي لاستكشاف هذه البلاد.
وكذلك فعل أقران جيروم من المستشرقين وكأنهم يمهدون لهذه الموجة من الإقبال على الرقص الشرقي لدى الغرب الأوروبي والأميركي، في الوقت الذي يتقهقر فيه هذا الفن في بلده الأم حتى أمسى جريمة يعاقب عليها القانون كما في قضية المدرسة المصرية وزملائها.
إذا كان هناك من قضية تثار في فيديو المدرسة المصرية وزملائها، فهي انتهاك الخصوصيات الفردية واستخدامها في حملات الترويج للكراهية والتحريض على مواقع التواصل، أما ما عدا ذلك فضرب من تكريس التخلف ومعاداة تقاليد مجتمع بأكمله.
منصات التواصل تحولت إلى منبر لاستباحة خصوصيات البشر وكيل الاتهامات من خلال فن شعبي ضارب في القدم
إن مصر دون فنون رقصها الشرقي والشعبي ـ مع ادارك الخصائص الفنية والتاريخية لهذين الصنفين من الرقص ـ هي أشبه بمصر دون أهرامات، ذلك أن المقابر الفرعونية نفسها، تمتلئ برسومات لفتيات يؤدين طقوس الرقص كأقدم أنواع التعبير البشري.
ومن البديهي التذكير أن الرقص، الذي تحرمه العقول المتحجّرة على الفتيات، ارتبط بالنساء بسبب التقرب من الآلهة طلبا للمطر أو المحصول الجيد، وكان من الطبيعي أن تؤدي النساء وهن رمز الخصوبة والحمل والولادة هذه المهمة كنوع من التقرب للآلهة في الحضارات القديمة.
هذه المدرّسة المصرية التي تبدو شديدة التلقائية، كان بإمكانها أن تجد لها في نفس المدرسة التي تعمل فيها زميلات وزملاء لتعليم فنون الرقص كما هو الحال في المدارس الغربية الحديثة، خصوصا وأنها تنتمي إلى بلد عريق في فنون التعبير الإنساني.
أما أن تقابل بمثل هذا الاستهجان الذي وصل حد التحريض والاتهام بالانحلال الأخلاقي، فهذا يعني أفول مرحلة مضيئة في تاريخ مصر والدخول في نفق التحجر والتنكر لروح البلد الذي عرف بتسامحه وإقدامه على الحياة عبر شتى أنواع الفنون والترفيه.
إنه لأمر شديد القتامة أن تتحول منصات التواصل إلى استباحة خصوصيات البشر وكيل الاتهامات، خصوصا من خلال فن شعبي ضارب في القدم كالرقص الذي من أبسط شروطه أن يكون تشاركيا، فهل يضطر الواحد إلى أن يقفل الباب على نفسه كي يعبر عن مشاعر مجتمعية تقتضي المشاركة والاحتفال.