التظاهرات الثقافية المساندة لغزة: قليل من الإبداع وكثير من الصراخ

جل ما يقدم من فن عربي باسم القضية الفلسطينية تكرار ركيك.
الأربعاء 2023/11/15
دعم فلسطين يتطلب فنا جميلا

حسن النوايا والقضايا العادلة لا ينتجان فنا راقيا بالضرورة، بل العكس تماما ما يحدث، ففي غياب الموهبة والإبداع وروح الابتكار والقدرة التقنية والفنية، فإن ما يأتي مناصرة لقضايا التحرر على غرار القضية الفلسطينية ليس سوى تكرار وصراخ سياسي أو أيديولوجي بعيد كل البعد عن روح الفن التي نجحت بعض الأعمال في بلوغها، لتحول قضية الشعب الفلسطيني إلى قضية إنسانية متوارثة.

ما معنى أن يتمحور النشاط الثقافي بكل هياكله ومؤسساته حول حدث أو مناسبة أو ذكرى يتم إحياؤها بصفة وظيفية وتوظيفية لا روح فيها ولا جديد غير تجديد الالتزام بروزنامة من المواعيد الثابتة والقارة على مدار العام.

وإذا كان هناك من “ارتجال” في هذا السلوك الثقافي الرتيب فإنه يعتمد على قنص ما يستجد من أحداث ومن ثم الركوب عليها بشكل استهلاكي وممجوج، ويخلو من روح الإبداع والابتكار.

تكرار باسم القضية

ما يمكن تقديمه لفلسطين وقضيتها من فن يجب أن يحمل رسالة مزدوجة تجمع بين قيم التحرر وقيم الجمالية

مواكبة المستجدات وتحيين النشاطات الثقافية لا يعنيان حشد وتجميع كل ما يمت لحدث ما بصلة قريبة أو بعيدة، وكيفما اتفق، مما قد يصيب بالملل والغثيان فيؤدي بذلك وظيفة عكسية ودورا تراجعيا، بعكس ما أريد له، وبحسب النوايا التي نفترض سلفا، بأنها فاضلة ونبيلة، ولكي لا نتهم بالركوب على الحدث وتسويقه بغاية المزايدة والمتاجرة أو لملء الشغور والفراغ، على أقل تقدير.

وفي هذا السياق، فإنه من الجدير ـ بل من الواجب ـ مواكبة ما يحدث في غزة، والتضامن مع القضية المركزية عبر التآزر مع الشعب الفلسطيني، وبأضعف الإيمان المتمثل في الحملات التحسيسية والوقفات الإنسانية عبر الأدب والفن، لكن ما يجري على كل ساحة ثقافية عربية منفردة يدعو إلى التساؤل حول مدى جدوى وفاعلية هذه النشاطات.

إن إقامة حفل فني أو تنظيم أمسية أدبية للتضامن مع ضحايا العدوان على غزة، لا يعني السقوط في الضحالة والركاكة والتكرار باسم الالتزام الوطني والإنساني.

النوايا الطيبة لا تبرر تدني المستوى الفني لدى أغلب ما يقدم من تظاهرات ثقافية تزعم التضامن مع الشعب الفلسطيني وتدّعي دعم القضية الفلسطينية، في ما عدا بعض العائدات المادية التي تذهب لمساندة ضحايا العدوان على غزة.

الأعمال الفنية المساندة لقضية الشعب الفلسطيني من خارج العالم العربي أكثر قيمة من ناحية الجودة الفنية

ولطالما نوقشت قضايا مساندة حركات التحرر في الإنتاج الفني والأدبي على المنابر الثقافية، ومدى جودتها وعلاقتها بالذائقة العامة، وكذلك الفائدة المعرفية التي تتوجه إليها، لكن لا شيء تغيّر، وظل الإسفاف والسطحية وضعف المعالجة الفنية سيد الموقف، و”كأنك يا أبو زيد ما غزيت” كما يقال في الثقافة الشعبية.

الأمر ينطبق على كافة الأقطار العربية وبدرجات متفاوتة من حيث الجودة في التظاهرات المقترحة، إذ نفضوا الغبار عن الأناشيد والأغاني ذات الكلمات الحماسية والسطحية، كما أعادوا محاولة إحياء بعض الأعمال الهشة والبائسة، والتي في رأيي، تضر بالقضية أكثر مما تفيدها.

الغريب أن الأعمال الفنية المساندة لقضية الشعب الفلسطيني من خارج العالم العربي أكثر قيمة من ناحية الجودة الفنية كالأغنية السويدية “تحيا فلسطين”، والتي طرحت منذ حوالي 45 عاما، سنة 1978، من قبل فرقة الكوفية السويدية، كما غنتها من جديد الفرقة الموسيقية السويدية “سبارتاكوس”، وأعاد فنانو الفرقة طرحها في الرابع من مارس عام 2016 ضمن ألبومهم السويدي.

لم تصدأ هذه الأغنية الأيقونة، وحافظت على رونقها وعنفوانها وكبريائها من دون أن تخسر إشعاعها الفني، بينما تراجع المنجز الفني العربي وعاد القهقرى ليردد أغاني باهتة وقصائد بالية، وكذلك يحتفي بملصقات بدائية، ويقدمها كفن تشكيلي مثل معرض أقيم في تونس لملصقات تعرف بنفسها كفن تشكيلي لأسماء عديمة البصمة والتأثير في المشهد التشكيلي التونسي.

وقس على ذلك من نشاطات وتظاهرات يصفونها بـ”الثقافية والفنية الداعمة لفلسطين”، في حين أنها لا تدعم إلا الرداءة ولا تكرّس إلا الذائقة المتدنية، مما ينفّر النفس ويجعلها تعرض عن هكذا تظاهرات لا تحتفي بالنبيل والإنساني والجمالي في القضية الفلسطينية كما فعل غسان كنفاني ومحمود درويش وميشيل خليفي ومحمد بكري في الرواية والشعر والسينما والمسرح.

والفعل الثقافي نشاط بشري ينبع من كون الإنسان ذاتا فاعلة ومنفعلة مع ما حولها، وهي شاهد ومؤرخ للواقع بعيون وأصوات ولغات مختلفة عمّا يراه الإنسان العادي.

الاعتراف فقط بالموهبة

Thumbnail

من هذا المنطلق، وجب على الإنسان أن يحترم إنسانيته عبر طرق وأساليب التعبير عنها فلا يسقط في الثرثرة والسطحية والسذاجة لأن ما يمكن تقديمه لفلسطين يجب أن يحمل رسالة مزدوجة تجمع بين قيم التحرر وقيم الجمالية في معادلة باتت اليوم، وللأسف الشديد، غائبة عن هذه الجعجعة التي تدعي المواكبة للأحداث.

قوة الإقناع غائبة في جل ما يقدم في المنجز الفني العربي باسم القضية الفلسطينية، ما عدا أعمال خالدة بأصحابها واكتسى القليل منها شهرة عالمية.

وبصرف النظر عن التعتيم الإعلامي المقصود وغير المقصود في الصحافة الأوروبية والأميركية، فإن الموهوبين وحدهم استطاعوا تبليغ معاناة الشعب الفلسطيني، وذلك ليس باستدرار الدموع أو الشتيمة وإطلاق الوعيد، وإنما باستخدام الأساليب الفنية المبتكرة، والطافحة بحس إنساني عميق.

آن الأوان أن تأخذ ملصقاتهم وأناشيدهم البلهاء “حصتها من صبرنا وتنصرف”، وذلك لأن عالم الإبداع لا يعترف إلا بالموهوبين وليس بمصففي الكلمات والنغمات والألوان في هذا البازار السياسي والإعلامي.

12