"التصريح" دراما جريئة عن منع امرأة من مغادرة إيران

فيلم "التصريح" يفضح سطوة الدولة البوليسية وقسوة القانون الجائر.
الجمعة 2020/01/03
الأمل في السفر الذي سيتحوّل إلى مشكلة

"التصريح" فيلم جديد يتميز بالجرأة والقوة ووضوح الرؤية، مناهض للثقافة السائدة في المجتمع الإيراني كما أصبحت في ظل الانغلاق الفكري والتشدد التشريعي بدعوى حماية القيم والأخلاق العامة من خلال قيود تستهدف أول ما تستهدف، المرأة.

فيلم “التصريح” The Permission حسب عنوانه الإنجليزي أو “عَرَق بارد” حسب العنوان الأصلي الفارسي، هو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج سهيل بيراغي. وهو شأن موجة الأفلام الإيرانية الجديدة التي برزت منذ الثمانينات، يسير على نهج الواقعية الصارمة، مع لمسات تتميز بالطرافة والجدة والإبداع، من خلال السرد نتابع قضية فردية محددة، يكشف الفيلم أولا عن جوانبها المتعددة ويجعلها مثالا لمشكلة مجتمع كامل، ثم يكشف ثانيا عن الكثير من الجوانب الداخلية الخفية التي ترتبط بالموروث، وكيف تلقي بظلالها الكثيفة على واقع إيران المعاصرة.

رغم أسلوب السرد الواقعي لحالة امرأة تعاني من القهر في مجتمع بطريركي، إلاّ أن الفيلم يلجأ أيضا إلى الإثارة والتشويق من خلال بعض ما يقع من مفاجآت وما ينجلي عن مطاردات بل واعتداءات مباشرة على الملأ، في مفاجأة غير متوقعة في فيلم إيراني حديث، كما يشير، ولو من طرف خفي، إلى ما يعاني منه الرجل من كبت اجتماعي يصيب نفسيته بشرخ خطير يجعله يتمادى في ابتكار وسائل الإيذاء والانتقام مستخدما القانون الراسخ الذي يستند أصلا إلى “الموروث” الديني.

يبدو فيلم “التصريح” كما لو كان امتدادا لفيلم إيراني آخر شهير هو “تسلل” (2006) Offside أفضل أفلام جعفر بناهي الذي لم يصنع بعده سوى نوع من “البروباغندا” المناهضة التي تلاقي التشجيع والترحيب في الغرب لأسباب سياسية فقط.

كان “تسلل” يدور في أوساط الرياضة وبالتحديد لعبة كرة القدم، من خلال رغبة مجموعة من الفتيات في مشاهدة مباراة في كرة القدم بين إيران والبحرين (2005) في إطار تصفيات بطولة كأس العالم، وكيف تنكرت الفتيات في أزياء رجال، لكن الشرطة تقبض عليهنّ وتمنعهنّ تنفيذا للقانون من حضور المباراة. أما “التصريح” فهو ليس عن منع النساء من مشاهدة المباريات، بل منعهنّ من السفر إلى الخارج لتمثيل بلادهنّ في لعبة كرة قدم الصالات المغلقة مرتديات الحجاب. لكن مَن الذي يمنع مَن؟

قصة حقيقية

شأنه شأن الكثير من الأفلام الإيرانية، يعتمد فيلم “التصريح” على قصة حقيقية وقعت للسيدة الشابة نيلوفار أردالان، التي كانت قائدة ولاعبة خط الوسط في المنتخب النسائي الإيراني لكرة قدم الصالات والتي فوجئت بمنعها من السفر بناء على طلب زوجها عام 2015 عندما كانت في طريقها لتمثيل بلادها ضمن منتخب كرة القدم النسائية. فمن هذه القصة استمد سهيل بيراغي سيناريو فيلمه وجعله يدور حول شخصية بطلة فيلمنا، وهي تمارس لعبة كرة قدم الصالات المغلقة المسموح بها في إيران.

هذه المرأة تدعى في الفيلم “أفروز” (باران كوساري)، وهي قائدة المنتخب الإيراني النسائي. وعندما يصل المنتخب إلى نهائيات كأس آسيا ويذهب أفراد الفريق إلى المطار للمغادرة للمشاركة في النهائيات التي تقام في كوالا لامبور بماليزيا، تفاجأ أفروز بأنها ممنوعة من السفر بناء على طلب زوجها “ياسر” (أمير جديدي).

وبينما يسافر أعضاء الفريق تبقى أفروز وزميلة لها وكذلك المشرفة على الفريق التي تقرّر البقاء لمحاولة حل هذه المعضلة، خاصة وأن أفروز هي أفضل لاعبات الفريق ووجودها ضمان للفوز.

أفروز منعت من السفر ليس نتيجة قرار سياسي، بل بسبب وجود قانون يسمح للزوج بالاعتراض على سفر زوجته

منعت أفروز من السفر ليس نتيجة قرار سياسي بل بسبب وجود قانون يسمح للزوج – الرجل بالاعتراض على سفر زوجته. أما أسباب تعنت الزوج فيكشف عنها الفيلم تدريجيا من خلال الأحداث التي تتعاقب، والمواقف الدرامية التي تتداعى.

وخلال ذلك يكشف الفيلم كيف تنحاز السلطة القضائية دائما إلى الرجل، وكيف تتآمر المسؤولة عن الفريق من أجل عرقلة سفر أفروز، ليس فقط تضاما مع الزوج الذي يتمتع بوظيفة مرموقة، بل خشية أن تقبل أفروز عرضا للالتحاق بنادٍ في إسبانيا ومن ثم إغراء الانشقاق عن إيران والذهاب إلى إسبانيا حيث يمكنها طلب اللجوء هناك، وكشف ما يرتكبه النظام القائم في إيران، وكلها أفكار يتم التعبير عنها بوضوح وبشكل مباشر في الفيلم وليس من خلال التورية.

ياسر الزوج الشاب، نجم تلفزيوني يقدّم برنامجا اسمه “الأيام القديمة الجميلة” يستخدم فيه الخطاب الديني ويصطنع التقوى والورع في حين أنه في الحقيقة ينتقم انتقامه الخاص بكل شراسة من أفروز التي انفصلت عنه منذ سنة وترغب في الطلاق، لكنه يرفض الطلاق لكي يهينها ويذلها فقط لأنها خرجت عن إرادته، والقانون لا يسمح للمرأة بطلب الطلاق، والزوج يرفض خروجها من البلاد والقانون لا يرغمه على تقديم أسباب لذلك الرفض، وعندما تقبل بالتنازل له أمام القاضي عن أي حقوق مقابل الطلاق وعلى أن يتركها تسافر يوافق ويوقع على الأوراق، لكنه يقوم بتمزيق الأوراق فور مغادرتهما مبنى المحكمة ويلقيها في وجهها أمام الجميع في الشارع، وهو مشهد يصل فيه الصراع بين الرجل والمرأة إلى ذروته الدرامية، وإلى ذروة الواقعية التسجيلية من حيث الأسلوب.

براعة السيناريو

الفيلم يسير على نهج الواقعية الصارمة، مع لمسات تتميز بالطرافة والجدة والإبداع في نقد المجتمع الذكوري
الفيلم يسير على نهج الواقعية الصارمة، مع لمسات تتميز بالطرافة والجدة والإبداع في نقد المجتمع الذكوري

كما هي عادة أفلام السينما الإيرانية الجديدة (فيما بعد عباس كياروستامي)، يقوم الفيلم على سيناريو مكتوب جيدا، متوازن في طرحه، يتيح مساحة جيدة لكل شخصيات الفيلم، يكشف تدريجيا من مشهد إلى آخر، عن تفاصيل الحبكة.

وعلى الرغم من تصدر شخصية أفروز الأحداث، لا يهمل السيناريو الشخصيات الثانوية: شخصية المشرفة المتشددة “مهرانه” (سحر دولتشاهي) التي تؤكد على اللاعبات كما نرى في المشهد الأول المثير لمباراة تجري في إيران، ضرورة عدم الكشف عن أذرعهنّ وضبط أغطية الرأس بحيث تخفي الشعر تماما، ثم تتضامن مع ياسر في موقفه المتزمت إزاء سفر زوجته نجمة المنتخب، رغم أنها تدرك أن وجودها سيضمن الفوز، وتقلل أهمية الفوز من أجل حماية صورة النظام، فهي تمثل السلطة السرية التي تفرض الهيمنة السلطوية وتعادي فكرة النجومية خشية أن تصبح مبررا للتعاطف الدولي الخارجي، خاصة بعد أن تبدأ أفروز في نشر رسائل احتجاج على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتسعى مهرانه أيضا لتأليب أقرب صديقات أفروز عليها، بل وتغريها بنقلها من صفوف الاحتياط إلى اللعب في مكان أفروز إن تخلت عنها ووشت بها وقدّمت لمهرانه الرسائل المتبادلة بينها وبين مسؤول في النادي الإسباني الذي عرض عليها الانضمام.

ويبرز الفيلم كثيرا دور وسائل التواصل الاجتماعي: تويتر ويوتيوب وواتساب وإنستغرام، وكيف تملك الفتيات القدرة على التخاطب من خلالها بل وتأليب الرأي العام أيضا عندما تلجأ أفروز إلى نشر فيديوهات تفضح فيها ما يحدث معها أمام الرأي العام، وكيف يحتشد وراءها ويدعمها عدد كبير من المتفاعلين.

في مشهد المحكمة عند نظر قضية الطلاق، تترافع محامية متطوعة عن أفروز أمام قاض لا نراه ولكننا نسمع صوته فقط. يبدو بلا سلطة حقيقية أمام جبروت الزوج وعناده، فهو لا يملك سوى أن يسأله لماذا لا يطلق زوجته طالما أنه يشكو من سوء معاملتها له، ولماذا لا يسمح لها بالسفر طالما أنه لا يريدها وأنها لا تقيم معه؟ لكن ياسر يقول بوضوح إن القانون في صفه وأنه غير مرغم على تقديم أسباب بل ويبدي تمسكه بزوجته وحبه لها.

ويعتمد المشهد بالكامل على الأداء التمثيلي البليغ من جانب الممثلين الثلاثة.. انفعالات مُحكمة تتصاعد بحساب، وحوار بارع مكتوب بحيث يعكس بدقة ملامح الشخصية من الداخل، كما يكشف أزمة المجتمع بأكمله من دون خطابة أو مباشرة فجة بل من خلال الكشف عن القيود القائمة التي تلقي بظلال كثيفة على علاقة المرأة بالرجل.

كشف التناقضات

فرحة النصر في الملعب
فرحة النصر في الملعب

يخلق المخرج سهيل بيراغي مقارنة تعكس التناقض بين تمسح ياسر بالدين وحديثه الدائم عن قيم المحبة والتسامح في برنامجه التلفزيوني بل واستضافته (على الهواء) امرأة لاعبة في منتخب كرة القدم تتحدث عن تمثيلها إيران في الخارج بفضل تفهم زوجها ودعمه لها، كما تقول، وبين موقفه الفظ المتشدّد

من زوجته، فهو لا يرفض فقط منحها الطلاق أو حق السفر بل يقوم بمطاردتها بسيارته في شوارع طهران ويصطدم بسيارتها من الخلف لترويعها، ثم يطردها من المنزل الذي استأجره لها ويلقي بأشيائها الخاصة في الشارع.

كما يكشف الفيلم نفاق ميرهانه التي تشارك بانتظام في إحدى جمعيات ذكر آل البيت، حيث تشترك مع مجموعة من النساء في الغناء وترديد وصلات الذكر. ويبيّن خبثها وكذبها ومحاولة عرقلة محاولات أفروز الحصول على دعم من اتحاد الكرة وكيف تنصح رئيس الاتحاد بشطب أفروز، وهو ما يحدث في نهاية الأمر.

يتميز الفيلم بإيقاعه السريع، والتدرج في التصعيد الدرامي، والتصوير الجيد في الأماكن الطبيعية، والاعتماد على مصادر الضوء الطبيعية في المشاهد الداخلية، والتصوير الصعب الذي يحبس الشخصية الرئيسية داخل السيارات في اللقطات القريبة (كلوز أب) لكشف المشاعر التي تنعكس على وجه أفروز وردود فعلها تجاه ما يقع لها.

يرتفع أداء الممثلة باران كوساري في دور أفروز بالفيلم ليجعله إحدى الكلاسيكيات بل وأيقونة جديدة سيصبح لها شأن كبير في السينما الإيرانية، فالممثلة تتمتع بوجه بسيط جذاب، متمكنة من التفاعل مع المواقف المختلفة والتعبير عن الرقة والغضب، والحماس واليأس، والعنف والاستسلام، والانتقال بين كل هذه المشاعر في هدوء وثقة وتماثل مدهش مع الشخصية التي تؤديها.

المعلومات التي تظهر على الشاشة في النهاية تقول إنه تم منع 8 رياضيات إيرانيات في عام 2015 فقط من مغادرة البلاد بناء على طلب أزواجهنّ. ولكن كما لعب فيلم “تسلل” دورا في تخفيف قبضة السلطات والسماح للنساء أخيرا بحضور مباريات كرة القدم في الملاعب، دفع فيلم “التصريح” عددا من عضوات في البرلمان الإيراني إلى التقدّم بتعديل قانوني يسمح بشكل استثنائي بسفر النساء العاملات في مجال الرياضة والفنون تحديدا، ولكن ليس كل النساء. فالمشوار لا يزال طويلا.

أصداء الفيلم

طرفا الصراع أمام القضاء
طرفا الصراع أمام القضاء

عندما عرض الفيلم في إيران (أواخر 2018) هاجمه أنصار التيار المتشدّد، وقاطعته مؤسسة “حوزه هوناري” وهي مؤسسة ثقافية وفنية تستند إلى الخطاب الدعائي الرسمي وتتلقى دعما حكوميا وتمتلك 100 دار للعرض في أنحاء إيران ممّا يترك تأثيرا كبيرا على ما يمكن أن يحققه الفيلم من إيرادات. إلاّ أن اتحاد السينمائيين الإيرانيين أصدر بيانا انتقد فيه موقف تلك المؤسسة، ومقاطعتها غير القانونية للفيلم، كما نشرت بعض الصحف الإيرانية مقالات تنتقد فرض رقابة داخلية من قبل مؤسسة غير مخوّلة بذلك على الأفلام قبل عرضها في شبكة دور العرض التابعة لها. وردّت المؤسسة على ذلك بالقول إن فيلم “التصريح” لا يتناسب مع قيم الأسرة الإيرانية.

ورغم البيانات التي صدرت عن الممثلين والمخرجين والعاملين في صناعة السينما عموما اعتراضا على موقف “حوزه هوناري” إلاّ أن الحظر استمر بدعوى أن الفيلم يتضمن مناظر “مثيرة جنسيا”. ولكن دور العرض الأخرى قررت تمديد عرض الفيلم لتعويض الخسارة المالية المتوقعة، وأدّى الجدل الذي ثار في الصحافة حول الفيلم، إلى زيادة الإقبال عليه.

ومن جانبه حظر التلفزيون الرسمي الذي يسيطر عليه المتشدّدون عرض أي دعاية للفيلم، وعندما احتج المخرج طالبوه بتقديم مقدمة دعائية دون أن تظهر فيها الممثلة باران كوساري، وهو ما رفضه المخرج. ومعروف أن التلفزيون الإيراني يقاطع الممثلة كوساري منذ أن شاركت في تأييد الإصلاحي حسين موسوي في احتجاجات عام 2009.

وقد وقع كل هذا الجدل رغم فوز الفيلم بجائزتين في مهرجان فجر السينمائي الإيراني الذي يمثل التيار المنفتح في الثقافة الإيرانية. ولا يزال الصراع بين التيارين مستمرا وإن كان يظل محصورا في نطاق معارك صغيرة.

16