التشكيلي لقمان أحمد يسخّر لوحاته لإعادة صياغة ثقافته

غادر الفنان الكردي لقمان أحمد بلده، لكن هذا البلد بكل خصوصيته الثقافية والفنية لم يغادر أعماله التشكيلية، فكانت منذ بداية مسيرته الفنية شهادة بصرية توثق بعض الثقافة الكردية وخاصة الجانب المتناقل شفاهيا والذي لا يعرفه إلا أبناؤها ولا يدرك جماله ومميزاته وجذوره إلا من كبر عليه فحاز مكانة عميقة في قلبه وذاكرته وساهم في تشكيل هويته.
“الفنان كالفلتر يأخذ من الواقع الأشياء الحقيقية مهما كانت فظاعتها، ويبدأ بإعادة إنتاجها فنيا، ويقدمها بشكل مختلف مكثف وعميق. وأنا جزء من الواقع، أدوّن كل شيء، ومن ثم أقوم بصياغته بشكل آخر يوازي دلالة الموضوع ورمزيته”.
هذا ما يقوله الفنان التشكيلي الكردي لقمان أحمد في أحد لقاءاته، والذي قد يلخص رؤيته تماما، وقد يكون إجابة عن تساؤلات عديدة كانت تدور في مخيلتنا ونحن نهم بقراءة أعماله.
لقمان فنان غارق في محليته غرقا حمزاتوفيا، فهو يتنفس بها بل هي المسند الذي يعتمد عليه في بحثه الفني، وموضوعاته جلّها تلاحقه في مجمل أعماله سواء كانت الملاحقة قائمة من شماله المفجوع أو من كرديته المنكوبة منذ الخليقة والمغتالة من أكثر من بعد بل حتى من أبناء جلدته، فهذا الوجع -وأقصد وجع الإنسان الكردي- يكاد يشكل أهم محور في أعماله؛ فلقمان يقترب من الثقافة الشفاهية للأكراد وبشكل خاص ملاحمهم المغناة بحناجر فنانين كبار باتوا مدرسة في ذلك كرفعت داري على سبيل المثال لا الحصر.
لقمان يغوص في التراث بتصوير جديد، لا كترجمة أو تحويل السمعي أو الشفاهي إلى بصري وإنما كمحاولات تجريبية
ويجسد لقمان قصص هؤلاء بألوانه الفاتحة الهادئة حينا والداكنة الحزينة في أحيان أخرى حسب مقتضى الحال للقصة المروية باللون، فاكتشاف أسرار تلك العوالم بصياغات جديدة وارتحال جديد هو بحد ذاته تجسيد جديد من الحضور دون أي انطواء للحلم. فهو يؤكد في أكثر من سياق ودون الذهاب إلى حقول بعيدة أن الدعوة إلى إنشاد سيمفونيات لونية لـ”سيامند وخجه” و”مم وزين” وغيرهما، ليست لاعتبارات موضوعية ولا لخلق حوار درامي جمالي فحسب بل لإنتاج صيغ تعبيرية جديدة تلتقط المنافذ الأهم لمقاماته الحافلة بالتأويل والتي بها يُلزم حقوله الإدراكية للعثور على مجموعة عناصر تحمل مواصفات إرسالية هي التي ستجره بدورها إلى الجذور الشعبية لتلك الأشياء التي لها كل مواصفات التحول إلى كيانات رمزية تتجاوز دلالاتها الإحالات التاريخية وإن بعناصر تكوينية جديدة.
ومن زاوية أخرى تحس أن أعمال لقمان تكاد تلخص جزءا جميلا من التراث الكردي وكأنه يردد مع سقراط مقولته الشهيرة “إذا أردت أن تعرف شعبا عليك بمعرفة تراثه وفولكلوره”.
وكأن الفنان لقمان أحمد حمل على كاهله تعريف الآخر بالأكراد من خلال تقديم مآثرهم وفولكلورهم وحكاياتهم فتكاد تحس بأنها سجادات معلقة في بيوت الجميع كتلك البرادي المطرزة بأصابع بناتهن والتي تغطي نوافذهن. لقمان يغوص في التراث بتصوير جديد، لا كترجمة ذلك إلى أعمال بصرية فحسب أو تحويل السمعي أو الشفاهي إلى بصري / مشهدي وإنما كمحاولات تجريبية ضمن مناخ خاص ومختلف قد لا تتشابه مع الواقع مطلقا وإن كانت مستوحاة منه ولكن بفك مشاعر وأفكار وأحداث، بفك لرؤيته الجمالية وإقامة حوارات مثمرة فيما بينهم وإسقاطها على اللوحة.
بذلك قد يستغل لقمان الحدث كإحدى أهم المؤشرات على حضور الإنسان أولا وفي إطار كبير من إصرار غير معين على خلق ما هو جديد بمفردات جديدة وبتقنيات جديدة قد تكون خارج السائد.
لهذا يبذل الفنان التشكيلي لقمان أحمد الكثير من الجهد حين يُغرق ألوانه في الزمن المستباح وبتدرجاته التي تربط ملاحمه اللونية بملاحم الآباء، وذلك بالاعتماد على مجموعة من الخيارات الواعية ليست الأخيرة منها إطلاق العنان لقلقه مع كسر قيود مضامينه بحثا عن عوالم جديدة وأشكال جديدة. وبوسعنا أن نتصور جملة الحساسيات الفنية التي يرسلها الفنان بين أثير أعماله للتأثير في إيقاع الحالة وتصاعدها وتوترها لتكون ملائمة لإبداع خصب وعذب يتجاوز الواقع بل ويتفوق عليه في عدم إغلاق لغة أفقه وإن كانت تتخذ أبعادا مغايرة لإعادة اكتشاف عتبات مرحلة باتت من الذاكرة الكردية مع اللجوء إلى البحث عن طرق وإمكانات استمراريتها.
يذكر أن الفنان التشكيلي الكردي لقمان أحمد من مواليد الدرباسية، الحسكة، سوريا في العام 1972. وهو مقيم في الولايات المتحدة منذ العام 2010. بدأ الفنان المشاركة في الفعاليات والمعارض منذ العام 1998 مع معرض الفن الكردي الذي عقد آنذاك في القامشلي لكنه لم ينظم أول معرض فردي له إلا في العام 2004. ومنذ ذلك الحين هو حاضر بشكل دوري حتى بعد لجوئه إلى الولايات المتحدة.
تتميز لوحات الفنان وأسلوبه التشكيلي بطابعه التعبيري وبتقنياته المختلفة ومنهجه المميز الذي يقدم للمتلقي في كل معرض جديد صورة مصغرة عن هواجسه الذاتية والخط الباني لمشروعه الفني المعتمد على نقل الأغنية الملحمية الكردية الغنية من خلال تجربته التي يرسمها مستلهما عناصرها من الكلمات والأغاني والثقافة المتناقلة شفاهيا.