التشكيلي السوري عزالدين همت لسان حال دمشق وطبيعتها

فنان يصور الواقع الإنساني دائم الحركة وعلاقاته المترابطة.
السبت 2023/02/11
دمشق الحاضر الدائم في لوحات همت

ولد عزالدين همت في دمشق، فخلقت منه المدينة فنانا نذر عمره لتصويرها، تتبع تفاصيلها وراقب الأمكنة والشخوص المارة بها، حتى أصبح بشهادة النقاد، فنانا دمشقيا تحضر دمشق في شخصيته الإنسانية والفنية، لم تفارقها يوما، وهو إن فارقها جسدا فقد ترك لوحاته رسائل تحكي لمن بعده عن ولهه بمدينته، عن حكايات أبنائها وأجمل أماكنها.

عزالدين همت (1938 - 2020) من أبناء دمشق، فيها ولد وفيها ترعرع وفيها أنتج أهم أعماله الفنية. لم يكن ابنها فحسب، بل كان كل منهما مسكونا بالآخر، فدمشق لم تغادر أضلعه كما لم يغادر هو أضلعها. لهذا وعلى مدار ستين عاما ونيف وابن دمشق يسخر ريشته لها، لأحيائها الشعبية، لبيوتها القديمة، لأزقتها، لمعالمها، لطبيعتها، لغوطتيها الشرقية والغربية، لنهرها بردى وما يحيط بها من جمال. فهو بحق أحد أهم رواد الفنانين السوريين الذين رسموا مدينة دمشق بكل تفاصيلها وجمالها، حتى كتب عنه البروفيسور الروسي بوغدانوف الأستاذ في أكاديمية سان بترسبورغ للفنون الجميلة والمتخصص بفنون الشرق في كتابه الصادر باللغة الروسية عام 1981 تحت عنوان “رسامون سوريون”، واعتبره في طليعة الفنانين السوريين الذين اهتموا برسم الطبيعة والأحياء الشعبية.

الفنان يبرز كنوز دمشق كمادة حية للمعرفة الفنية وبأشكال جديدة للتجسيد الفني مستكشفا منابع الجمال فيها
الفنان يبرز كنوز دمشق كمادة حية للمعرفة الفنية وبأشكال جديدة للتجسيد الفني مستكشفا منابع الجمال فيها

عزالدين همت هو العاكف على دمشق وتصويرها، بل توثيقها لا مكانيا فحسب بل زمانيا، وبمرور سريع على أعماله وعناوينها مثل “سوق الزرابلية” و”حمام الراس”، “حارة حمام سامي”، “مطعم فول بوز الجدي في سوق الجمعة”، “الربوة وجسر على بردى”، “جامع الشيخ محيي الدين”، “باحة دار العرند في باب الشاغور”، “زقاق الحمام”، “الراعي في غوطة دمشق”، “من حديقة التكية السليمانية”، “القاعة حي الميدان”، “الشاغور الصمادية”، “زقاق الحنابلة”، “الشيخ محيي الدين ابن عربي”، “جامع الصابونية السنانية”، “قاسيون والغوطة”، “حارة الورد ساروجة”، “بساتين العدوي” وغيرها من أسماء اللوحات التي أنجزها على مدار عقود، سندرك إلى أي حد وأي مدى كان عاشقاً لدمشق، حاملاً أدواته من ريش وألوان وكل ملحقاتهما، متنقلا بين مفاصلها ملتقطا ياسمينها وتأثيرها عليه وعلى الدمشقيين جميعا وعلى كل من يتلحف عطرها.

إنه يبرز كنوز دمشق كمادة حية للمعرفة الفنية وبأشكال جديدة للتجسيد الفني وبما يلائمها، مستكشفا منابع الجمال فيها، وحالاتها المثيرة للدهشة وغير العادية، مستكشفا عناصر وقوى العالم الموضوعي المحيط بها وأهميتها كظروف مؤثرة على ريشته، فهو لا يلغي شيئا منها مؤكدا أنه كفنان لا يمكن أن يعيش في مجتمع ويكون مستقلا عنه.

لذلك كان لهذا المجتمع، لهذا الوسط، لهذه المدينة (دمشق) تأثيرها المباشر عليه، على شخصية عزالدين همت كإنسان، ثم عليه كفنان، وهذا ما يمكن أن نلمسه في تصويره الواقعي للمكان والإنسان.

يثير الفنان همت بإمكاناته الفنية، ومن خلال العملية الإبداعية المتمثلة في بناء العالم الفني تصورات تستند على وظائف تعبيرية فنية متعددة، تشكل ألوانه وريشه فيها كأدوات لسرد عوالم فكره ونفسه وقلبه ونشاطه الاجتماعي في الوسط المحيط وفي الزمان والمكان.

هو يشير بذلك وبوصفه فنانا تشكيليا يسعى لتصوير المكان والناس في حالة من الحركة المستمرة، لا سكون فيها، وربما هنا يكمن سر قدرته على الإضاءة الفنية للحياة التي تشمل كل جوانب الواقع الإنساني بعلاقاته المترابطة والمتبادلة، وكأنه يلتقط مقولة مكسيم غوركي بأن عين العالم المبصرة لكل شيء، العين التي ينفذ شعاعها إلى المكنونات الدفينة لحياة النفس الإنسانية، ويترجمها في الأشكال المختلفة لتجلياته أقصد لأعماله. وأعمال الفنان معظمها مبدعة تتجلى مجمل خصائص الواقعية كمنهج فني يحدد طبيعة تعبيراته مستخدماً كافة الوسائل والإمكانات المتاحة له لعكس الواقع بشكل فني متميز، بسماته وخصائصه محققا وظيفة اتصال لها مقدرة عالية على الخلق، لها مقدرة النفاذ إلى جوهرها والوصول إلى أسرارها من خلال رسم علاقة بين هذا الداخل وما عليه أن يخطه في الخارج، على السطوح مظهرا حقيقتها، حقيقة حياتها، واضعا في اعتباره هذا الخيط غير المرئي بين السطوح والأعمال كي ينبض على مدار القراءة.

وإذا كان الروسي نيكولاي تشير نشيفسكي (1828 - 1889) يستخدم في أشكال الحياة ذاتها، في أشكال الحياة الواقعية ذاتها لا كسمة للواقعية بل كحقيقة أكيدة تميز كل تصوير فني، فإن همت يستخدمها إضافة إلى ذلك كإطار للعالم الواقعي الذي سيضفي سماته وملامحه على عالمه هو، فهو يحمل كل تصوير فني للحياة طابعاً نابعاً من طبيعة الفن ذاتها كانعكاس فني للواقع.

عزالدين همت يعير اهتماما كبيرا للقضايا الواقعية مؤكدا على فكرة ارتباط الفن على نحو وثيق بالحياة
عزالدين همت يعير اهتماما كبيرا للقضايا الواقعية مؤكدا على فكرة ارتباط الفن على نحو وثيق بالحياة

تظهر الكثير من هذه الأشكال الفنية في تجربته الغنية، فهو يكاد يكون الذاكرة الاجتماعية والحياتية لدمشق وأهلها، دون أن يهدر بمخزونه الفني كشرط لإحيائها وتوثيقها، ودون أن يفقد من عمله مفرداتها الجمالية، فتجربته تحتفظ بمغزاها الفني والحياتي العام معا.

يعير همت اهتماما كبيرا للقضايا الواقعية مؤكدا على فكرة ارتباط الفن على نحو وثيق بالحياة، ولهذا كان حريصا على أن يبقى أمينا لذلك. وما تجوالنا بين أعماله التي تستحق أن تكون بحق لسان حال دمشق حينها إلا توكيدا على ذلك، فهو فنان يدرس الأماكن بداية ثم يعطيها الروح حتى يبدأ بجمعها مع كل ما تبعثر تحت سوط الزمن، لا يزيف ما يراه، مدركا أن للطبيعة أحاسيس تستحق أن تؤخذ بالحسبان وهو يتقدم بالخوض في رسمها، وكان مجتهدا في صياغة ذلك، مجسدا إياه بحالاتها التي لا تقف عن العزف.

يذكر أن الراحل همت من مواليد حي الميدان بدمشق سنة 1938، نشأ وترعرع في دار عربية نهل منها جماليات البيت الدمشقي ليبدأ مشوار الرسم منذ صباه الباكر ويتعلم الفن وأصول الرسم ومزج الألوان بطريقة خاصة. ولما لم تكن كلية الفنون الجميلة تأسست بعد عندما نال شهادة الدراسة الثانوية اختار الدراسة في كلية الحقوق فنال إجازته الجامعية سنة 1963، ثم أسس مع عدد من الفنانين الشباب مجموعة للرسم من الطبيعة ليشارك بعدها في المعارض الفنية ويحصل على الجائزة الأولى في معرض جامعة دمشق وسجل بعدها حضوراً محلياً ودولياً عبر عدة معارض فردية للوحاته في المراكز الثقافية وصالات العرض وفي المعارض الفنية في سوريا وعدد من عواصم العالم.

ويصنف النقاد همت من بين أوائل الفنانين الذين استشعروا مبكرا جماليات الأحياء الدمشقية الشعبية وجاذبية العمارة المحلية من دون أن ينخرط في دراسة الفن أكاديميا فلم تكن هناك كلية أو معاهد فنون جميلة ولكن من خلال الممارسة والقراءة الفنية تكونت لديه خبرة مهنية فنية جعلته يضطلع بمهمة توثيق وتدوين جمالية الفن المعماري والطبيعة والبساتين الدمشقية ونقلها من خلال فنه ولوحاته التشكيلية إلى العالم.

14