التسخين النقابي قبل العودة المدرسية في تونس

مدخل النقابة للتسخين للموسم الدراسي الجديد ليس انتقاد السلطة وإنما هو استهداف الوزيرة والضغط عليها ومحاولة إرباك عملها.
الأحد 2024/08/04
شعارات قديمة متجددة

تعمل نقابة التعليم الثانوي على لفت الأنظار إليها بتحريك ملفات الانتدابات وخاصة موضوع النواب، أو بإثارة عنصر الخلاف بين المدرسين والمفتشين (المتفقدين كما يسمون في تونس) وأيهما صاحب الصلاحية في تحديد الزمن المدرسي والتقييم.

النقابة الحالية تعرف حدودها، لذلك هي تتحرك بأسلوب التلميح أكثر من التهديد أو الوعيد كما في السنوات السابقة، حيث كانت النقابات تحرص على إظهار أنها أكبر من الوزير، وأن قوتها من قوة الاتحاد العام التونسي للشغل، كما يعكس ذلك هذا الشعارُ "الاتحاد أكبر قوة في البلاد".

حصلت تغييرات كثيرة في الدولة وفي المشهد السياسي العام كما في وزارة التربية تجعل النقابة تتحدث بقياس محدود محافظةً على هامش من المعارضة والنقد للوزيرة سلوى العباسي من دون قطع طريق العودة.

ومن أبرز التغييرات أن الدولة لم تعد تخاف من اتحاد الشغل ولا من بيانات التهديد والاحتماء بالإضراب ولعبة ورقة إحراج السلطة أمام الأسر التونسية التي يعتبر التعليم شغلها الشاغل ولن تقبل بالإضراب، ولعل السلطة نجحت في أن تقلب المعادلة، حيث صار المدرسون يشعرون بصعوبة تنفيذ الإضراب خوفا من ردود أفعال الناس مثلما حصل مع نقابة التعليم الابتدائي قبل سنتين.

لكن مدخل النقابة للتسخين للموسم الدراسي الجديد ليس استهداف السلطة أو الحكومة بالبيانات شديد اللهجة، ولا نعتها بحكومة صندوق النقد، ولا بالحكومة العاجزة عن تنفيذ تعهداتها، كما يُعتمَد في السابق من بيانات. المدخل هو استهداف الوزيرة والضغط عليها ومحاولة إرباك عملها وفرض أجندة مغايرة لما تريد فعله.

الوزيرة، وهي مفتشة تعليم ثانوي، تريد أن تعيد بناء العلاقة الهرمية في مجال التعليم الثانوي بأن يظل المفتش/ المتفقد هو سيد العملية التربوية؛ فعلميّا هو الأعلى مستوى في هذا الإطار، وهو من يمتلك خبرات ميدانية وتعليمية وبحثية في تقييم أداء المربين وتقبل التلاميذ، وهو من يحق له وحده وضع أساس تحسين البرامج وإعادة توزيع المواد (بالحذف أو الزيادة)، وهو من يحدد من يختار من المدرسين لتدريس مادة كذا والمستوى كذا حسب تقييم بيداغوجي يفترض أنه ملم به وفاهم له ومن حقه وحده دون سواه أن يشرف على تحسين أداء المدرسين.

◙ الدولة لم تعد تخاف من اتحاد الشغل ولا من بيانات التهديد والاحتماء بالإضراب ولعبة ورقة إحراج السلطة أمام الأسر التونسية التي يعتبر التعليم شغلها الشاغل

نقطة الخلاف الأساسية تكمن هنا؛ الوزيرة ومن ورائها نقابة المتفقدين تريدان استعادة سلطة التقييم مطلقا، والنقابة تريد المشاركة أو اقتسام السلطة بمسوغ تعتبره واقعيا يكمن في قوة تمثيلها للمدرسين الذين يجب أن يكون لهم رأي في تحسين العملية التربوية بفعل الخبرات التي امتلكوها خلال التطبيق الفعلي، أي التدريس، ويتهمون المفتشين بأنهم يرددون نظريات وأفكارا لا يمكن تنزيلها على أرض الواقع.

ووصفت النقابة منشورا صادرا عن الوزارة بأنه يحجم دور المدرس و”يجمع مختلف الصلاحيات البيداغوجية والإدارية ويمنحها إلى المتفقدين بما قد يشكل سطوا واضحا على مهام مختلف الأسلاك والفاعلين كما حددتها القوانين والمناشير المنظمة للمجال التربوي".

النقابة تستمد مشروعية طرحها مما حصلت عليه من مكاسب بعد 2011؛ حيث حصلت على مزايا حولتها إلى الطرف الأهم في المشهد، فهي من تختار المدير أو بمعنى أدق تؤشر على القبول به، وهي من تؤشر على قبول نظار المعاهد والمدارس الإعدادية، وأغلبهم نقابيون. وحين صار المدير والناظر والمدرس والقيم العام والقيم العادي والحارس وعاملات النظافة من منظومة النقابة وجدت نقابة المفتشين نفسها على الرف.

حازت النقابة هذه المزايا الكبيرة بجرة قلم حين قررت الحكومات الضعيفة بعد الثورة ترك حقيبة التربية والتعليم للنقابة بتعيين قريب منها فكريا وسياسيا، لتصبح النقابة ليس فقط مهندسة التعيينات وإنما أيضا الشريك الأهم في مشاريع الإصلاح التربوي التي لم تر النور بالرغم من اللجان المشتركة التي تشكلت واللقاءات الواسعة والمكلفة.

الصراع الآن بين النقابة ووزيرة تمتلك شخصية قوية وتريد تنفيذ أفكارها. وتراهن النقابة على الوقت وأن الوزيرة ستجد نفسها في الأخير مجبرة على التسليم بالأمر الواقع، وربما تتم إقالتها من منصبها كما حصل مع سلفها محمد علي البوغديري، الذي لم يستمر طويلا رغم أنه محسوب على الرئيس قيس سعيد، وكان منافحا كبيرا عن أفكاره ومساندا لمسار 25 يوليو 2021، لكن حين وجدت السلطة أن الرجل لم يفلح في كسب ود القطاع الأكثر إزعاجا للدولة في العقود الماضية تمت إقالته.

البوغديري وضع نقابة الثانوي السابقة في صفه، فقد كان التيار المهيمن عليها يحمل التوجه نفسه المساند للرئيس سعيد، لكن النقابة لم تقدر على نجدته، وذهبت هي أيضا ضحية التحالف مع الوزير.

وتعتقد النقابة أن تحركها في هذا الوقت قد يكون في صالحها، فالضغط على الوزيرة يعني مرحليا إزعاج السلطة المستنفرة لإنجاح الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في السادس من أكتوبر القادم، والتي لا تريد فتح ملفات اجتماعية يمكن أن تزعجها حاليا.

لكن يبدو أن رهان النقابة لم يكن في محله، فتحريك ملف النواب مثلا ليس مشكلة خاصة يمكن أن تحرج الوزيرة، فهي من البداية مرتبطة بخيارات حكومية وأكثر من ذلك خيارات الرئيس سعيد، الذي رد بسرعة بأن حث خلال لقائه الجمعة مع الوزيرة على "ضرورة إيجاد حل نهائي للمعلمين والأساتذة النواب إلى جانب المرشدين التطبيقيين وأعوان المخابر وذلك بالاعتماد على معايير واضحة تضمن حقوقهم بل تنهي عديد الأوضاع المأساوية التي ما كان لها أن تصل إلى هذا الحد لو تمت منذ سنوات معالجة هذا الموضوع بطريقة واضحة وسليمة تضمن حقوق المعنيين وحقوق الناشئة على حد السواء".

◙ الصراع الآن بين النقابة ووزيرة تمتلك شخصية قوية وتريد تنفيذ أفكارها. وتراهن النقابة على الوقت وأن الوزيرة ستجد نفسها مجبرة على التسليم بالأمر الواقع

قطع الرئيس الطريق على مزايدة أي جهة كانت، نقابية قطاعية أو مركزية أو أحزابا، في موضوع النواب والموظفين الذين يعملون مع وزارة التربية بشكل مؤقت. الرسالة واضحة، لا وقت للمناكفة وتسجيل النقاط، ولن يجد اتحاد الشغل منفذا لتحريك جموده شبه الكامل بالرهان على ملف كان قيس سعيد دعا بنفسه إلى حله.

سرعة تحرك الرئيس سعيد خدمت الوزيرة وأعطتها دفعا قويا لتنفيذ خطتها في تحييد النقابات ومنعها من السيطرة على المؤسسات التربوية تحت مظلة “المطالب النضالية” والمطلبية التي تخدم أعضاءها بشكل مباشر، أو تلك التي تتعلق بظروف العمل.

وتم التطرق خلال الاجتماع إلى “التعهد بالمنشآت التربوية خاصة وأن الاعتمادات المرصودة متوفرة، هذا فضلا عن استعداد المواطنين للمساهمة في عمليات التعهد والصيانة”. وأكد الرئيس سعيد على ضرورة الاستعداد من الآن للعودة المدرسية والعمل أيضا على توفير الحماية للتلاميذ ولمحيط المدارس والمعاهد.

لن تجرؤ النقابة على دخول العام الدراسي الجديد بالدعوة إلى الإضراب أو التحركات الاحتجاجية، وهي فقط ترسل الإشارات إلى كونها موجودة ضمن سياق منافسة داخلية بين أنصار المكتب الجديد وأنصار المكتب المتخلي، والذي خسر نفوذه بسبب رهانه على الاقتراب من السلطة.

ستنتظر النقابة حتى تمر الانتخابات الرئاسية ويتضح المشهد تماما لتقرر ما إذا كانت ستختار أسلوب البيات الشتوي واعتماد الإشارات والتنبيهات إذا استمر قيس سعيد لولاية رئاسية جديدة، أم ستعود إلى الخطاب الاستعراضي القديم في حال فوز مرشح آخر لتفرض عليه مربعا للتحرك تجاه نقابات التعليم خصوصا والاتحاد العام التونسي للشغل عموما.

5