التراث الموسيقي لسوريا يعانق المستقبل

تحتل الموسيقى والغناء التراثي عند الشعوب مكانة هامة تقترب من مراتب القداسة. وكثيرا ما ينظر إلى هذا التراث على أنه الحارس لهوية الأمة، ويحدث أن يتم تناوله من قبل بعض المجددين بطرق شتى، الأمر الذي يوافق عليه البعض ويرفضه البعض الآخر. من هنا كانت تجربة بعض الشباب الموسيقيين السوريين الذين توجهوا نحو التراث الغنائي والموسيقي للبلد فأرادوا حفظه بطرق حديثة علمية. فهل تحقّق لهم ما أرادوا؟
دمشق – تمتلك منطقة الشمال السوري أهمية خاصة في تراثها الفني الموسيقي، وهو الأمر الذي لم يكن غائبا عن ذهن بعض الجهات المحلية أو العالمية التي قدّمت جهودا في سبيل حمايته. وكان من أحدث ما قدّمته هذه الجهود العالمية هو مشروع “خارطة سوريا الموسيقية” الذي تنظمه جمعية “العمل للأمل”.
مشروع انطلق في شهر مارس من العام الجاري، بدعم من صندوق حماية الثقافة، المجلس الثقافي البريطاني، والذي يهدف إلى حماية التراث الفني في سوريا والموسيقي تحديدا ويقوم على حفظ مئة أغنية بشروط فنية عالية الجودة وحمايتها من التلف والضياع.
تكوين حضاري
عبر الآلاف من السنين، عاش الإنسان في منطقة شمال وشمال شرق سوريا، باختلاف أعراقه ولغاته وأديانه وحضاراته، فبنى من خلال كل ذلك خارطة حضارية شديدة التنوع والثراء.
وفي هذه المنطقة عاش الآراميون والأشوريون والكلدانيون والإيزيدون والكرد والسريان والعرب والأرمن والقفقاسيون والتركمان والأتراك والفارسيون وغير ذلك. وتعاقبت الأديان وانتشرت في مساحات واسعة من المنطقة، فكانت الوثنية ثم الديانات الإبراهيمية.
الاختلاف العرقي والديني واللغوي أنتج خليطا حضاريا متفرّدا قلما يوجد له مثيل في العالم. فبعض الأغاني الجزراوية (الجزيرة السورية) التي تشتهر في المنطقة تتكوّن أحيانا من لحن واحد وزجل في أكثر من لغة، فأحيانا تأتي الأغنية بكلمات كردية وعربية وأرمنية معا.
ومنطقة الجزيرة السورية تبدأ من أطراف حلب غربا وتضم مساحات واسعة من شمال سوريا في محافظتي الرقة والحسكة، مرورا بدير الزور في الشرق وحتى الموصل وعمق العراق متجاورين مع نهري الفرات ودجلة، فيما يسمى الهلال الخصيب.
وفي هذه المساحة الجغرافية والحضارية ظهرت الموسيقى السريانية التي كان لها دور حاسم في تاريخ موسيقى العالم، وقديما كتب الفارابي أنه اكتشف ما يزيد عن الثلاثة آلاف لحن في بلاد فارس متأثرة بنسب متفاوتة بالموسيقى السريانية، والتي بقيت للمئات من السنين ضمن نمط الغناء الكنسي الديني حتى عمد بعض رجال الدين في القرن الماضي لاعتماد بعضها لتحفيز الناس على متابعة الغناء الديني وزيارة الكنائس.
لكن حيوية هذه الموسيقى جعلتها تتسرّب إلى وجدان الناس في المنطقة وصارت جزءا من الموروث الغنائي للكثير من الأغنيات الشعبية فيها في عموم بلاد الشام وليس الشمال فحسب. وعبر الآلاف من السنين وتتالي حضور هذه الاختلافات تميّزت الموسيقى التراثية العائدة لهؤلاء وشكّلت ما يسمى بالفن الجزراوي الذي وحّدهم. وانطلقت العديد من الجهود الفردية والأهلية والحكومية التي كان هدفها الحفاظ على هذا الفن وحمايته من الاندثار.
وضمن هذا السياق برز فنانون كثر برعوا في فنون الغناء أو العزف على آلات موسيقية تقليدية، مثل آلة البزق التي تعتبر الأكثر تأثيرا في المنطقة. وفيها تميّز الفنان سعيد يوسف الذي كان يعتبر أحد أهم عازفي البزق في العالم، وعنه قال أمير البزق محمد عبدالكريم “لا أخشى على آلة البزق ما دام هناك عازف اسمه سعيد يوسف”، كما وُجدت بعض القامات الغنائية الكبيرة التي ساهمت بتكريس هذا الفن.
وفي تجربة سورية جديدة لحماية هذا التراث الموسيقي والغنائي من الاندثار ظهرت فرقة موسيقية اسمها فرقة التراث السوري للموسيقى، التي قدّمت مؤخرا حفلا موسيقيا في دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) في أول ظهور لها على المسارح السورية.
حمل العرض عنوان “ألحان من الشمال” بقيادة المايسترو نزيه أسعد، تضمن مقطوعات موسيقية للعديد من القامات الفنية التي شكّلت ثقلا موسيقيا في تاريخ المنطقة، واختار كل من إدريس مراد المشرف الفني على المشروع والموسيقي شيركوه دقوري مجموعة من الأغنيات التي تنتمي لعدة قوميات وأديان، وقاما بجمع عدد منها في مقطوعات موسيقية صرفة من خلال توزيع موسيقي علمي جديد قدّمه مختصّون معتمدا على كل علوم الهارموني الحديثة.
وقدّمت في الحفل مؤلفات ليوسف برازي وشيركوه دقوري ومحمد علي شاكر والأب جورج شاشان ونذير محمد بعيدا عن صيغها التقليدية المعروفة من حيث طريقة العزف. وقام بالتوزيع جوان قره جولي وصهيب السمان وشيركوه دقوري ونزيه أسعد. وتكوّنت الفرقة الموسيقية من مجموعة من الآلات الوترية الشرقية التي ظهر البزق فيها بشكل واضح وبعض الآلات النفخية والآلات الإيقاعية وحضرت آلة الهارب الوترية والأجراس كإضافة على المشهد.
واحتفى الحفل بالعديد من المعزوفات التي تفاعل معها جمهور المسرح كونها تخاطب ذاكرته وتراثه الموسيقي منها “جلنار، الحبيبة” و”رقيقة القلب” و”حل المساء” و”التنور العتيق” وغيرها.
ويرى إدريس مراد الباحث الموسيقي والصحافي والمترجم أن المشروع مهم جدا، ويحتاج إلى مؤسسات كبيرة قادرة على دعم الجهد الذي سيعود بالفائدة على التراث الموسيقي السوري لاحقا، وتابع قائلا “المشروع التوثيقي للتراث الموسيقي السوري الذي أتشرّف أنني طرحته منذ سنوات هو الحاضن لهذا العمل، الجانب البحثي هو الشكل النظري للمشروع، بينما الحفلات الموسيقية هي الجانب العملي فيه”.
مشروع طموح
يواصل “المشروع كليا والحفل الأحدث خصوصا تضمن تقديم أغنيات حوّلت إلى ألحان موسيقية صرفة، فلكل ملحن خمس أغان تم دمجها في عمل واحد وبتوزيع عالي المستوى. قدّمنا هذه الأعمال بأسماء مبدعيها تكريما لأرواحهم والتي يجهل الكثير من الناس أنهم من هذه المنطقة”.
وعن المشاركين في العمل معه يبيّن “شارك معنا بالعمل موسيقي كردي شاب اسمه شيركوه دقوري درس الموسيقى بالسويد، وقدّم جهدا كبيرا في عملية تدوين كل الأعمال الموسيقية التي تم عزفها، وهو من الطاقات الشابة التي تقدّم جهودا حثيثة لخدمة الموسيقى التراثية في سوريا للحفاظ عليها”.
وعادة ما تكون ردة فعل الجمهور على هذه الحفلات إيجابية، كونها تعود به إلى ماضيه وتاريخ أجداده، وعن تقييمه للآراء التي وصلته بعد نهاية الحفل يبيّن مراد “الكثير من الناس أحب هذا النمط الجديد في تقديم هذه الغنائيات الشهيرة، لذلك نحن عازمون على تقديم المزيد منها ضمن حفلات متتالية، ويمكن اعتبار ما قدّم على أنه جزء من الحالة الكلية التي نطمح إلى تحقيقها عبر العديد من الحفلات. والبعض طلب أن تخصّص مساحات لغناء هذه التنويعات الموسيقية، وهذا ما سنعمل عليه لاحقا”.
ولا تغيب حساسية التراث عن ذهن أصحاب المشروع، فبعض المحاولات التي تناولت أغاني تراثية سواء كانت من خلال بعض المغنين أو الفرق الموسيقية، لم تكن بحجم المسؤولية، فظهرت محاولات شوّشت على المادة التراثية الأصلية، وانساق البعض في تجاربهم لتقديم هذه التراثيات في أعمال عصرية غاية في الفوضى، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين واعتبروه تشويها للتراث الذي يجب أن يظهر كما في حالته الأصلية القديمة.
ومن هذا المنطلق يبيّن مراد أن هذا التراث يتعرّض لمخاطر عديدة، أولها تناوله بشكل رديء، كما أنه يتعرّض للسرقة من خلال نسب بعض الموسيقيين من بلدان مجاورة وبعيدة بعض هذه الأعمال إليهم.
أما نزيه أسعد مايسترو الفرقة الذي قدّم في الحفل رؤية فنية وتأريخية مقاربة، فيؤكّد أن هذه الألحان البيئية التي تمثل التراث السوري يجب أن تحفظ وأن تكون في اهتمام الجميع، لكي يعرفها جمهور الشباب ويتفاعل معها، معتبرا أن الموسيقى الهجينة التي تقدّم الآن، لا تحمل أي خصوصية وهي تشبه بعضها البعض ولا طائل من ورائها، أصلا.