التحدي الأكبر.. حدود الأمن الغذائي في تونس زمن كورونا

خبراء يقترحون كحلول لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب توسيع المساحات المزروعة، واعتماد سياسة زراعية بطريقة تعاضدية أي استغلال الأراضي بطريقة تشاركية لتحسين المحصول وتحقيق الأرباح.
الجمعة 2020/08/21
وضع معيشي مقلق

فرضت قضية الأمن الغذائي في تونس نفسها بقوة خلال هذه الفترة بالنظر إلى استمرار أزمة وباء كورونا والتخبط السياسي الذي يكبل تنفيذ إستراتيجيات الإنتاج الزراعي وسبل مواجهة التداعيات الكارثية لموجة الجفاف التي تضرب المنطقة. وهذه الأزمة المتوقعة في غضون سنوات، والتي يتخوف منها المواطنون أكثر من دوائر صنع القرار، ترتبط بأزمات أخرى، أهمها سوء إدارة الأزمة الاقتصادية التي وصلت لمستويات مدمرة وتعطل الكثير من القطاعات الحيوية.

تونس – أعاد وباء كورونا على غرار الأزمة الاقتصادية الحادة، اختبار حدود الأمن الغذائي في تونس، وسط حزمة من التساؤلات بشأن قدرة السلطات على توفير المواد الغذائية الضرورية في ظل ارتفاع منسوب توريدها وخاصة الحبوب، وهو ما يعني اختبار مدى نجاعة سياستها في هذا المجال خلال الأزمة الصحية الحالية أو أي أزمة أخرى محتملة.

وتكشف تقديرات حكومية عن تراجع متوقع لمحصول الحبوب في تونس للسنة الحالية، وهو ما من شأنه، وفق محللين، أن يضاعف حاجة البلاد إلى مزيد استيراد مادة القمح اللين لسد الحاجيات الغذائية من الخبز تحديدا.

وتوقعت وزارة الفلاحة تراجع محصول الحبوب في حدود 15.7 مليون قنطار (1.5 مليون طن) خلال الموسم الحالي مقابل محصول قياسي بلغ 24 مليون قنطار (2.4 مليون طن) خلال الموسم الماضي.

وأرجع المسؤولون تراجع إنتاج الحبوب لهذا الموسم أساسا إلى “العوامل المناخية، التي اتسمت بانحباس الأمطار لحوالي شهرين ونصف الشهر (يناير وفبراير ومنتصف مارس 2020) ما أثر على الحالة العامّة في أغلب مناطق الإنتاج”. وأشاروا إلى تضرّر بعض مناطق الإنتاج المعروفة بالزراعات الكبرى على غرار مدن مثل الكاف وسليانة وزغوان بسبب الجفاف.

وأقر منذر  الفرجاوي منسق الغرفة الوطنية لمجمعي الحبوب في تصريحات لـ”العرب” أن موسم الحبوب للعام الجاري كان متواضعا ودون المتوسط، مشيرا إلى دور العوامل المناخية في هذا التراجع مقارنة بالموسم الماضي.

وعلى غرار العوامل المناخية، لفت الفرجاوي إلى أن كميات استهلاك الحبوب المرتفعة تجبر الحكومة على خيار التوريد، كما سلط الضوء على صعوبات طالت القطاع خلال أزمة كورونا حيث توقف الإنتاج ومكث المزارعون في منازلهم، ولم تكن عملية مداواة المحصول سهلة. وأشار إلى أن هناك مساع حثيثة عبر اعتماد إستراتيجية متوسطة المدى لزيادة الإنتاج و”مع ذلك تبقى تونس عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب”، لكن لا يعني هذا العجز أن البلاد على مشارف أزمة غذائية، حيث فند الفرجاوي ما راج عن دخول البلاد أزمة غذاء جراء الوباء ونقص في مادة الحبوب.

تحذيرات مقلقة

توقعات تراجع محصول الحبوب في تونس
توقعات تراجع محصول الحبوب في تونس

يحذر خبراء من أن تراجع إنتاج الحبوب يعمق من تبعية تونس في هذا القطاع، ويهدر عليها فرص تحقيق اكتفاء ذاتي على الأقل في هذه المادة. وبحسب أرقام رسمية، تقدر نسبة التبعية إلى التوريد بالنسبة إلى الحبوب بنحو 61 في المئة، ويقدر المسؤولون أن المخزون الإستراتيجي للحبوب يكفي ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر.

ويقدر الطلب المحلي من الحبوب بنحو 3 ملايين طن في السنة، وهو ما يدفع السلطات إلى اللجوء لاستيراد الفارق على مستوى الإنتاج. وقد سبق أن أفاد تقرير عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) بأن واردات تونس من الحبوب للموسم المقبل ستزداد بنسبة 20 في المئة مقارنة مع الموسم السابق، لتصل إلى حوالي 3.8 مليون طن.

وفي يونيو الماضي، ذكر متعاملون أوروبيون في تصريحات لوكالة رويترز أن ديوان الحبوب التونسي اشترى ما يقدر 159 ألف طن من قمح الطحين اللين و50 ألف طن من علف الشعير في مناقصة عالمية.

وبالنسبة للقمح، طلبت تونس خمس شحنات حجم الواحدة 25 ألف طن وثلاث شحنات حجم الواحدة 17 ألف طن للشحن في الفترة بين 25 يوليو و25 سبتمبر. أما بالنسبة للشعير فقد طلب الديوان شحنتين قدر الواحدة 25 ألف طن للشحن بين 25 أغسطس و25 سبتمبر، اعتمادا على المنشأ المختار.

معز بالحاج رحومة: الآلاف من الهكتارات في مهب الريح بسبب سوء التصرف الحكومي
معز بالحاج رحومة: الآلاف من الهكتارات في مهب الريح بسبب سوء التصرف الحكومي

ويشير ارتفاع نسق التوريد خلال الآونة الأخيرة إلى ضغوط هيكلية يعاني منها القطاع الزراعي، زادت من مشاكله زيادة حجم استهلاك الحبوب ومشتقاته في فترة الحجر الصحي أثناء الإغلاق الاقتصادي بسبب كورونا والاضطرار إلى توقيف الأنشطة الاقتصادية بسبب الالتزام بإجراءات التوقي من فايروس كورونا.

لكن، حسب الخبراء والمتابعين، العجز في توفير حاجيات البلد من الحبوب لا يبدو ظرفيا، وحتى في حال نجاح موسم الحصاد وتحقيقه محصولا واعدا كالسنة الماضية، تبدو البلاد بعيدة كل البعد عن تحقيق الاكتفاء الذاتي.

وعزا معز بالحاج رحومة رئيس لجنة الفلاحة والتجارة بالبرلمان التونسي في حديثه لـ”العرب” “عجز تونس عن تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى تهميش الدولة منذ الاستقلال القطاع الفلاحي”.

ورأى رحومة أن “كل الحكومات التي مرت بعد الاستقلال لم تكن ضمن أولوياتها الفلاحة كخيار إستراتيجي تبنى عليه اقتصاديات البلد، في حين وقع التركيز منذ بداية السبعينات على التوجه نحو السياحة كقطاع إستراتيجي وكان هناك تركيز أيضا على الصناعات الفقيرة مثل النسيج والخياطة التي تستقطب عددا هاما من اليد العاملة، بينما وقع إهمال الفلاحة”.

وبرأيه، بقي قطاع الزراعة مهمشا على الرغم من التجارب لتطويره مثل تجربة التعاضد في ستينات القرن الماضي، حيث بقيت الآلاف من الهكتارات في مهب الريح بسبب سوء التصرف الحكومي.

ويشير رئيس لجنة الفلاحة والتجارة بالبرلمان إلى مرحلة جديدة تراهن عليها الحكومة من خلال إصدارها قانونا يتعلّق بتنظيم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وحسب رحومة، من شأن هذا القانون أن يوفر موارد مالية هامة خاصة لصغار الفلاحين وتوفير الدعم لهم.

وحذر من أن تهميش القطاع قاد إلى تراجع في مردودية إنتاج الحبوب، رغم الأراضي الزراعية الشاسعة، ويعتقد أن الحل في تحسين الإنتاج وحسن استغلال المساحات الكبرى.

وتخصص تونس معظم أراضيها الخصبة لزراعة القمح وتستورد في الأساس القمح اللين والشعير، وتهدف للوصول بالإنتاج المحلي من الحبوب إلى 2.7 مليون طن سنويا، وتظهر الأرقام أن الزراعة تمثل نحو 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى عكس التحذيرات من مشارف أزمة غذاء تعيشها تونس جراء تداعيات الوباء، وهي أزمة تهدد غالبية دول العالم، أشاد رحومة بالدور الإيجابي لقطاع الزراعة. ويقول إن “كورونا وضعنا أمام واقع حقيقي يؤكد أنها الضامن الوحيد للأمن الغذائي الوطني”.

ودعا إلى استثمار هذه الأزمة بإعادة الاعتبار للقطاع الفلاحي، ودعمه بكل الأشكال وتوفير الإمكانيات المالية خاصة عبر المؤسسات المصرفية المحسوبة على هذا القطاع.

ومع أن تونس دولة قائمة على الزراعة إلا أنها عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي، بسبب العوامل المناخية غير المستقرة وشح المياه والجفاف وأيضا بسبب صعوبات جمة يعاني منها الفلاحون.

نقص مواد الإنتاج

صعوبات طالت القطاع الزراعي خلال أزمة كورونا
صعوبات طالت القطاع الزراعي خلال أزمة كورونا

حسب تقارير إعلامية محلية، دقت النقابة التونسية للفلاحين ناقوس الخطر لفقدان مواد تدخل في عمليات الإنتاج مثل داب وسيبار 45 والأمونيتر من البلاد وهي مواد ضرورية لتحضير الموسم الزراعي المقبل، منددة بنقص الدعم الحكومي.

ويشير الصادق جبنون الخبير الاقتصادي والاستشاري في إستراتيجية الاستثمار لـ”العرب” إلى أنه على الرغم من أن الزراعة تمثل أحد أهم القطاعات الإستراتيجية، إلا أنها لا تحصل على نفس الدعم أو قيمة القروض الممنوحة للقطاع السياحي على سبيل المثال.

صادق جبنون: إنتاج الحبوب في تونس عملية غير مربحة لمعظم المزارعين
صادق جبنون: إنتاج الحبوب في تونس عملية غير مربحة لمعظم المزارعين

ويعتبر هذا القطاع غير ممول، لافتا إلى أن المواصلة في استيراد القمح اللين جعلت إنتاج الحبوب في تونس عملية غير مربحة بالنسبة للكثير من المزارعين. وبيّن جبنون بالقول “يتم دعم بعض الأسمدة والمنتجات الفلاحية وهو دعم يذهب إلى المضاربين ولا يصل إلى المزارعين، وبالتالي نجد أن نسبة التغطية الفلاحية رغم أنها أعلى نسبة في الميزان التجاري إلا أنها تحمل نقاط ضعف عديدة في قطاع الحبوب”.

وفي الوقت الذي يعتقد فيه جبنون أن تحقيق الاكتفاء الذاتي يتطلب المزيد من الاستثمار في القطاع، يرجع خبراء صعوبات تحقيق ذلك ولاسيما في مادة الحبوب، إلى الأزمة الصحية العالمية وآثار التراجع الحاد في الاقتصاد.

ويلفت الخبير الاقتصادي بسام النيفر لـ”العرب” إلى ضغوط كبيرة يتعرض لها قطاع الحبوب جراء ارتفاع الاستهلاك خاصة في فترة الحجر الصحي. وكشف أن زيادة وتيرة “توريد الحبوب أثرت سلبا على الميزان التجاري للبلاد”.

ووفق آخر إحصائيات نشرها المرصد الوطني للفلاحة، سجل الميزان التجاري الغذائي نهاية يوليو الماضي عجزا بلغ 222.4 مليون دينار (81.5 مليون دولار) غير أنه تراجع بما يقدر بحوالي 578.9 مليون دينار (212 مليون دولار) مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.

وارتفعت حصة الواردات الغذائية في مجموع مبادلات التجارة الخارجية للبلاد بنحو نقطتين لتبلغ 11.3 في المئة رغم تراجع قيمتها بنحو سبعة في المئة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وفي ما يتعلق بواردات الحبوب فقد سجلت ارتفاعا في القيمة يقدر بنحو 3.9 في المئة مقابل ارتفاع في الكمية بنسبة 9.5 في المئة.

واقترح النيفر كحلول لتحقيق الاكتفاء الذاتي توسيع المساحات المزروعة واعتماد سياسة زراعية بطريقة تعاضدية أي استغلال الأراضي بطريقة تشاركية لتحسين المحصول وتحقيق الأرباح.

ويرى خبراء أن الحكومة مطالبة بالاستثمار في الطرق الأكثر نجاعة بتطوير آليات الإنتاج وأن تخلق طرق تسويق تراعي مصالح المزارعين، إذا أرادت المضي في طريق الاكتفاء الذاتي. وحسب هؤلاء، تتضمن طرق الاستثمار الري بالاعتماد على أساليب مبتكرة في استعمال الماء، مثل الري بالتنقيط، وعدم انتظام هطول الأمطار في ظل التغيرات المناخية التي أثرت على كوكب الأرض.

6