التأويل فعل يدفعه الارتياب وتعدد الفرضيات

التأويل هو مجمل المسارات التي تحلل أحداثا مسرودة للوقوف على مضامينها المتعددة، ولكن لما كان التأويل فعلا بشريا هو أيضا قد يتعدد بتعدد المؤولين، فيختلف الفهم من مؤول إلى آخر. وقد يذهب التأويل، العالِم منه على وجه الخصوص، إلى ما لم يقصده كاتب نص الانطلاق وقد يزيده تعقيدا.
السّرديّات حمّالة للذاكرة والهويّة، للحِلّ والتّرحال، للتقارب والتباعد، للتآلف والتباغض، للأنماط المستقرّة والآفاق الممكنة.
تستحضر الأفعال والحوادث السابقة والبعيدة، الواقعية والمتخيلة وتدرجها في تفاعلات توهم بأنها تدور الآن وهنا، وتستعرضها وجها لوجه حين يكون الحكي شفويّا، أو عن بعد إذا استعارت وسائط مدوّنة، حتّى أن بعضهم شبّهها بآلات تسافر في الزمان والمكان، وتعطي المجتمعات الرمزية المترامية أُسّا.
تعدد السرديات
التمييز بين السرديات الفعلية والتخييلية أهم قاعدة للفصل بين الأجناس السردية، فالأولى تدّعي الإحالة على مرجعيات واقعية، بينما تتبنى الثانية رجحان الأحداث المرويّة، وتقديمها على نحو يوهم باحتمال حدوثها، ولو أنها تفرط في ذلك على نحو يفيض على الميميزيس الأرسطي.
ولئن كانت قدراتنا الإدراكية قريبة من عالمَي العمليّ والتخييليّ، فإنها تصطدم في الحالة الأولى بإكراهات الواقع الطبيعيّ والعلائقي، بينما تجد في الثانية فرصة للتحرر عبر مرور خيالي إلى عوالم لهو مستحيلة. ويغدو ممكنا حينئذ أن نقرأ أفكار الآخر، والتكلّم بكلّ اللغات، وفهم منطق الطّير، والارتحال عبر الأزمنة، والتكّهن بالغيب.
تعمل السّرديّة على إضفاء نظام معيّن على الفضاء والأحداث والأبطال، وإدماج الاحتمال والانتظام الطبيعي في سلسلة من التفاعلات المنطقية داخل توتر سردي، باعتماد التشويق (إرجاء حلّ مشكلة، أو البتّ في مصير شخصية) وإثارة الفضول (تقديم وضعيات تتشكل وشخصيات تسعى) والمباغتة (مراوغة انتظارات المتلقي)، وهي الخصائص المرتبطة بغياب الوثاقة واليقين في حياتنا، فكلّ شيء قابل للتحول والتغير وحتى الزوال في أيّ لحظة، بخلاف السرديات التقليدية كالحكايات المتسلسلة التي تهتك قواعد السرد الأساسية، فتقطعه حال بدايته، وتقنع بأبسط وصف، وتمر بغتة من التخييلي إلى الواقعي، وتسجن الحكاية في حلقات تدور حول نفسها.
فحكايات الصيغ والحكم تكتفي بأحداث بسيطة متشابهة في الغالب، وحكايات الحيوان تثمّن الفطنة، ولكن على حساب القيم الأخلاقية أحيانا، وتحوم حول الخداع والحيلة. والحكايات العجيبة والغريبة تقوم على القَطع مع الاتساق والاطّراد والقواعد المعيارية المعروفة.
قراءة نص ما وتأويله لا يقللان بالضرورة من الصعوبة، لأن علاقة النص بالفعل الحقيقي إشكالية في الغالب
أما التخييل، فإنه يحشد كل العوالم، بما فيها عالمه، بإخضاعها إلى منطقه الخاص، حيث يغدو الواقع واقعا تخييليا، والتخييل سردية تخييليّة، كما في الحلم أو اليوتوبيا، إذ يستدعي كلَّ ما يشكّل عالَمنا الرمزي.
ولو أن هذه الميزة الأساسية لا تخص التخييل وحده، لأن السردية الحَدثية الواقعية يمكن أن تتناول التخييل والحلم والهلوسة والكذب كبناءات وقعت وصارت محلّ خبر وإعلام. بالطريقة نفسها يمكن أن نحلم أننا نحلم، وأننا نفعل عمليّا، وأننا نطيع معتقدات مقدّسة. هذه القدرة على الإمساك بمختلف العوالم انطلاقا من المنطق الخاص لعالمٍ ما تدفعنا إلى مقارنة شتى عوالمنا ومساءلة حدودها، وتأويل عالمنا الرمزي.
ولكن كيف ترتبط عوالمنا التي لا تقبل الاختزال، والتي تتخذ مرجعا لها نفس قدرات الفهم وتنتمي إلى نفس العالم الرمزي، ببعضها بعضا؟
النشاط التأويلي
الحلول الكلاسيكية كانت تحوم حول الانعكاس والتوافق البنيوي والإصداء الثيمي والاستعارة والرمز. ولكن لو أمعنّا النظر في نظريات التلقي لوقفنا على عدّة مستويات في الفهم والتأويل لأن الكاتب والمتلقي لا يملكان بالضرورة نفس القدرات، أو أن مشاغل كلّ طرف لا تطابق مشاغل الطرف الآخر.
وقراءة نص ما وتأويله لا يقللان بالضرورة من الصعوبة، لأن علاقة النص بالفعل الحقيقي إشكالية، وسوء الفهم كثيرُ الحدوث، والأصناف المستعملة هجينة، وإرادة التأثير على يقينيات المتلقي واردة، واستراتيجيات التفاخر بالذات أو تمجيد المنقود حاضرة على الدوام.
أضف إلى ذلك أن الخطابات العالمة تعقّد النصّ أكثر ممّا تبسّطه، مثل تحليل عالم الاجتماع التونسي عبدالوهاب بوحديبة لخرافات تونسية في كتاب “المخيال المغاربي” زعم فيه، استنادا إلى علم النفس وعلم التحليل النفسي وعلم الاجتماع، أن لها خلفيات جنسية، ما يوحي بأن جدّاتنا وأمّهاتنا كنّ يعانين من مكبوت جنسيّ فضحته خرافاتهن.
في تعليقه على هذا النوع من التأويل، أذكر أن الناقد توفيق بكار قال لي “يكفي أن نغيّر الغولة بغول حتى تقع التأويلات كلّها في الماء”.
إن نظريات التلقي الأدبي، لاسيّما تلك التي تلحّ على القراءة كفعل خلق وتعدد، فتحت بابا مهمّا ولكن العلوم الاجتماعية لم تستفد منه إلا نادرا لعدة أسباب. أولها التقسيم الأكاديميّ للمهمّات، ما يجعل تحليل الأعمال التخييلية حكرا على كليات الآداب. وثانيها استعجال العلوم الاجتماعية والآداب العثورَ على أهمّ تأويل، بدل التعامل مع التأويلات كلها بالقدر نفسه. وأخيرا، تشتت البحوث التجريبية، فهي لم تتشكل بعد في تيار فاعل، ولو أن مسار التعدد التأويلي يسير بخطوات واعدة.
ولئن كان العالم التخييلي يستدعي العوالم الأخرى حول قصة معيّنة، فإن البحث عن المعنى ينحو نحو وجهة معاكسة، حين يسأل القارئ عن مضمون الأثر وأبعاده، لأنه يعود إلى تلك العوالم، ولكن بطريقة غير فريدة، فهو يمدّ جسور تعميم مختلفة. تعدد العوالم ذاك يضع رافعة أولى للتعدد. الرافعة الثانية، أنّ المعطيات التأويلية تتفرّع إلى أربعة أشكال رئيسية: التوصية، الرسم التّوضيحيّ، رصد الثيمات، والحكم الأخلاقي.
التوصية تقترح مسارا ميسّرا، توحي به السردية. ورسم الإيضاح يتخيّر انتظاما لافتا يمكن أن يستعمل كعلامة يُستدلّ بها داخل الأثر. رصد الثيمات يميز ظرف الفعل، المثقل بإمكانيات متعددة لا تستعمل منها السردية إلا القليل. وأخيرا الحكم الأخلاقي المعياري يؤيد أو يدين أثر الفعل على متلقيه.
ولو لخصنا ذلك لقلنا إن النشاط التأويلي يشغله الارتياب وعدم الوثاقة وفرضيات الفعل. أما رافعة التعدد الثالثة، فهي أن السردية تتألف من عدة فواعل ومشاهد وأحداث ووصف، ومن تفاصيل لافتة تكون مداخل ممكنة لعمل المؤول، والشرط في التأويل أن يتناولها كلّها وفق رؤية شاملة، ولكن المؤولين يفضلون في الغالب جمع التأويلات الجزئية، فيختارون الأبواب الجانبية أو الخلفية. والرافعة الرابعة والأخيرة كمصدر للتعدد تتأتى من تصنيف المتفرّد، حين يبني المؤول جسرا جامعا نحو عالم من العوالم التي تقترحها السردية.
تلك هي أهم رافعات التعدد في سردية بسيطة تخلو من صعوبة الفهم الحرفي، والظرف التاريخي المخصوص، والأساليب المنمقة، والتباس الجنس. ذلك أن المسالك التأويلية تؤلف شبكة كثيفة، وقلّ أن يسير شخصان في مسلك واحد. وحتى عندما يكون معطيان متماثلين، فمن النادر أن يكون لهما نفس الفهم، أو أن يتمّ التعبير عنهما بنفس المعنى ونفس الصيغة.
ولئن كان المؤول يميل تلقائيّا إلى انتهاج مسالك نمطية، فإنه عادة ما يتيه في مساره، فيضطر إلى الابتكار لاستنباط طرق جديدة، ما يجعل المعنى الذي يغفل عنه هذا المؤول يهتدي إليه مؤول آخر، وهو أمر يعطي انطباعا بوجود سحابة من المعنى تتنقل فيها عدّة رؤوس، سحابة يضِل في تلافيفها العارف وغير العارف، إذ فيها الحيوي وفيها الراجح وفيها المحتمل. وحتى إن التقت الأغلبية حول تأويل ليس صائبا بالضرورة، فثمة دائما أمل في ظهور صوت صغير يقول للواثقين إنهم عراة.