التأليف الروائي نوع من الميتافيزيقا والألغاز

هل هناك قواعد لكتابة الرواية ووصفة ليصبح الكاتب ناجحا.
الخميس 2023/11/30
لكل روائي عالمه السري (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

بات الجميع يكتبون الروايات، ما يؤكد مقولة إن كل شخص باستطاعته كتابة رواية أولى، خاصة إذا أتقن أساليب الكتابة الروائية، ولكن السؤال الذي يطرح هو هل يصبح كل من كتب رواية روائيا جيدا؟ وهو ما نجد إجابته في انقطاع أغلبية من قدموا روايات أولى عن نشر روايات أخرى، أو فشل الكثيرين في كتابة نص روائي مختلف وذي جودة.

يخيل للمتأمل في المشهد الثقافي أن عدد الروائيين يعادل نسبة القراء والمتابعين إن لم يفقها. فقد أصبح تأليف الرواية ضمن مشاريع مستقبلية للكثير من المبدعين والهواة. وما ينبئ بهذا الميل أكثر هو انضمام المزيد من الأسماء إلى نادي الرواية. وإذا أنت من المهتمين بقراءة الأعمال الروائية والكتابة عنها سيلقى سؤال على مسمعك باستمرار: لماذا لا تكتب روايتك؟

طبعا يستند منطق المتكلم إلى البعد المهني في الكتابة. وهو لا يجانب الصواب في افتراضه بأن الرواية مهنة يمكن اكتساب الدراية بمبادئها من خلال القراءة ومن ثم تشرع في المحاولة على الحلبة. لكن هذا المنطق لا يكون صحيحا في مطلق الأحوال كما أن التمتع بالفرجة على اللعبة لا يجعل المشاهد لاعبا أو تفوق المدرب لا يعني بأنه كان عنصرا فاعلا داخل المستطيل الأخضر كذلك الحال بالنسبة إلى الفنون الإبداعية.

رحلة الاكتشاف

لو كانت هناك خطوات بسيطة أو قواعد للكتابة العظيمة لكان الجميع قد اكتشفوها الآن بحيث صارت مملة

إن قراءة الرواية أو الكتابة عنها والتنظير لها نقديا لا يكسب المرء حسا روائيا. الأهم في معترك كتابة الرواية هو المكان الذي يستنهض بمكوناته طاقة المخيلة، فما يسرده الروائيون في أعمالهم تعود جذوره إلى مرحلة الطفولة، هنا تمكن الإشارة إلى تجربة الروائية السورية مها حسن التي لمحت إلى ما كان يثيره في ذهنها القطار الذي يعبر القرية مبدلا أجواءها من المثقلة بالهدوء الرتيب إلى الحيوية والحركة للحظات.

ما تقوله حسن عن ترقبها للقطار الذي يواري بالمسافرين عن الأنظار ويرمي بهم نحو المجهول يعيد بالمتلقي إلى رواية “مترو حلب” وهاجس بطلتها بإنشاء سكة الحديد في مدينتها المنكوبة جراء الحرب ومن البداهات التي قد لا تستدعي التذكير بها، أن مفردة القطار لها مدلول سيميولوجي ومحايث للطاقة الاستيعابية للاختلاف والتنوع.

لا تغيب الطفولة لدى الروائية التركية أليف شافاك إذ تسرد جانبا من العالم الذي تفتحت فيه مداركها بأهمية القصة ودورها في التخفف من الشعور بالوحدة والعزلة. وهي تعود إلى أنقرة رفقة الأم المطلقة، فكانت أجواء المدينة مشحونة بالتوتر السياسي ما يمنعها من الخروج واللعب في الشارع وتعوض حرمانها من كل ذلك بالرحلة في الحكايات الخرافية التي تسمعها من الجدة. فهذه المواد المحكية كانت تزيد من زخم التخييل لدى الطفلة.

تستعيد صاحبة “لقيطة إسطنبول” تجاربها الأولى مع القراءة والكتابة في شهادة منشورة بين دفتي كتاب معنون بـ”مهنة الكتابة ما تمنيت معرفته في بداياتي” الذي يثبت فيه كلام لنخبة من الروائيين الذين لهم بصمة على المستوى العالمي.

إلى جانب شافاك التي تعترف بأن كتابة القصص كانت بدافع الملل والحياة المنمطة تقع على ما يرويه بول بيتي الذي كان يشعر بالقلق مما يتطلبه الانخراط في الكتابة من أن يصبح مفهوما ويقول ما يطيب للناس سماعه وما يعتقدون بأنه صحيح وبالتالي عليه تنمية ما يسميه جيري ساينفيلد بـ”تصفيق الموافقة الجماعية”.

يعتقد بيتي أن درجة المؤلف المنسوبة إليه ليست تتويجا أو منحة، بل بقايا العمل الشاق والأمل الذي يخامره باستمرار بأن تكون بصمته في الكتابة والتفكير واضحة ولا يشبه غيره في كتابة نصوصه الإبداعية. أما مصدر الإلهام بالنسبة إلى حنيف قريشي فهو نجوم موسيقي البوب، فكان يشاهد هؤلاء في طفولته بكل الإعجاب وهم يغنون وما لفت انتباهه هو أن هؤلاء النجوم يكافأون مقابل عمل يحبونه وهذا يعد إحدى أعظم المتع على الأرض.

والـملمـح الصادم في شهادة حنيف قريشي هو قوله إن الفضائل التي تجعل الكاتب ناجحا لا يمكن تعليمها. فالمطلوب من الكاتب برأيه هو صياغة قصص جديدة لأناس يعيشون على التكرار. من المعلوم أن الأسلوب يكون محكا لأيّ كاتب فإذا نجح في صك أسلوبه الخاص يحق له الانضمام إلى صفوة المبدعين.

الأسلوب ليس نتيجة لقرار مسبق ولا يكمن في معرفة جملة من القواعد بل يتأسس من خلال التجربة والأخطاء

تؤكد الروائية الإنجليزية غراهام سويفت على أن الأسلوب ليس نتيجة لقرار مسبق ولا يكمن في معرفة جملة من القواعد بل تتبلور قسمات الأسلوب من خلال التجربة والأخطاء والمحاولات الدؤوبة. وما يمكن التعويل عليه أكثر هو إحساس المؤلف إن خطر له أثناء الكتابة بأن ثمة شيئا ما يجعل هذه الكلمات تتخلق فهذا مؤشر بأنه على الطريق الصحيح. وإذا توهم بأنه يدفع بالكلمات إلى خلق شيء ما فهو مصاب بسوء الحظ.

ما يجب أن يحافظ عليه الكاتب بنظر الروائية توفه يانسون هو الهدوء والقدرة على تحويل كل مادة إلى موضوع روائي، وتتخيل بأن الكتابة تبدأ برصد أبسط شيء. كما أن الترويض على الافتراض هو المحرك للكتابة والتبصر بوضعية أدوار الشخصيات.

وتذهب الروائية الأميركية ويلا كاذر إلى أن الرواية أو القصة من الطراز الأول ينبغي أن تمتلك قوة دزينة من القصص الجيدة بقدر مقبول، أي القصص التي ضحي بها من أجلها. وما يفهم من كلام كاذر أن الرواية تنشأ على أكتاف القصة المحملة بعناصر التمدد.

والهدف الأول من كتابة الرواية لدى مارك ليفي هو الدفع بشخصية مشتقة من الخيال إلى الواقع. وإذا نجح الروائي في منح شخصياته صفات وأصواتا واضحة لا يصعب على القارئ فهم الحوار الذي يدور بينها ويعفي ذلك الكاتب من التطويل والتذكير باسم شخصياته الروائية.

ويلفت ليفي النظر إلى تجنب الإفراط في الإظهار والكشف. وما يشحن الرواية بالتشويق ليس الإسهاب في الوصف ولا التعليق على كل شاردة وواردة، بل التفصيلات الصغيرة هي ما يمكن للروائي أن يراهن عليه لضخ اللغة بالطاقة الإيجابية. والتحدي الأكبر يتمثل في حذف الحشو والتعويض عنه بكلمات قليلة. كما أن الحدث هو ما يكسب الرواية قوة إقناعية. ويعترف مؤلف رواية “هو وهي” بأنه لو كانت هناك خطوات بسيطة أو قواعد للكتابة العظيمة لكان الجميع قد اكتشفوها الآن بحيث صار العمل مملا. ومعنى ذلك أن كتابة الرواية إضافة إلى ضرورة الخلفية المعرفية بخصوصية خطابها تحتاج إلى الحس الإبداعي.

النفس الطويل

i

قد يستفيد الكاتب المبتدئ من تجارب الروائيين الذين أضافوا إلى خارطة هذا الجنس الأدبي وفتحت أعمالهم مجالا لاختبار أشكال جديدة من الكتابة، لكن الثابت في العملية الإبداعية عموما والإبداع الروائي على وجه الخصوص هو أن النفس الطويل يتوج المحاولات بالنجاح. يرى نجيب محفوظ بأن الكاتب يجب أن يمتلك عناد الثيران، لأن الكتابة كخنجر على حد قول آني آرنو.

تبدو تجربة الكتابة أصعب لدى أرنست همنغواي إذ ينصح صاحب “الشيخ والبحر” من يرغب في اقتحام هذا العالم بأن يشنق نفسه ويتخذ من هذا الحدث منطلقا للكتابة. والكلام عن همنغواي يعود بنا إلى انتحاره وتفسير القرار بأنه كان نتيجة العسرة التي حلت بموهبته. ويربط هاروكي موراكامي بين حياة همنغواي الشخصية وما كابده في أواخر أيامه، كانت نصوصه تستمد الزخم والقوة من مغامرته الحياتية وشغفه بالمصارعة وقنص الحيوانات الضخمة، لكن العمر حرمه بالتدرج من الطاقة التي زودته بها التجارب.

وعلى الرغم من أنه قد تأخر في نشر روايته الأولى غير أن الكاتب الأميركي دونالد ري بولوك تراكمت لديه الخبرة بتفاصيل الكتابة لذلك بدوره يبادر بتقديم إرشاداته، ويوافق نجيب محفوظ حول أهمية التحلي بالصبر، مضيفا بأن الكاتب لا يصح أن يشخصن الأمور لأن عالم النشر والكتابة يزدحم بالأصوات الأدبية. وربما الجديد في حديث مؤلف “المائدة الربانية” هو اقتراحه بإعادة كتابة أعمال الآخرين. فهو قد طبع 75 قصة، ولم يكن بولوك استثناء في ذلك فقد نسخ هنتر ت. تومسن رواية “غاتسيبي العظيم” كاملة.

 ولا يخلو خيار الكتابة من المران لذا فمن الضروري التفرغ لها كل اليوم ولو لدقائق معدودة. ويقارن هاروكي موراكامي بين مواد الكتابة ومفاتيح البيانو كما يمكن عزف ألحان مختلفة على المفاتيح نفسها كذلك بالنسبة إلى المواد التي تراها مكررة، فالاحتمالات بلا حد لاشتقاق صياغات جديدة منها وتصميم أعمال متنوعة.

برأي مؤلف “شاطئ كافكا” أن الأهم ليس جودة المادة بل السحر وإن كان السحر حاضرا فيمكن تحويل أكثر الأمور اعتيادية في كل يوم وبأبسط لغة إلى مصدر للثقافة الرفيعة المفاجئة. يستعيد موراكامي الأجواء التي رافقت كتابة روايته الأولى لافتا بأنه لم يعش تجربة الحرب ولا ذاق أي نوع من المعاملة الوحشية أو العنصرية يمكنه الاتكاء عليها، بل عانى من انعدام رغبة أيّ شيء. إذن الحل هو سحب كل ما يحتفظ به صندوق الرأس حتى لو كان لا يشبه سوى كومة خردة. والعمل إلى أن يأتي السحر. والخيال بنظر موراكامي ليس إلا ذاكرة تتكون من شذرات عالقة في تلافيف الذهن.

الرواية أو القصة من الطراز الأول ينبغي أن تمتلك قوة دزينة من القصص الجيدة بقدر مقبول

توازي الكتابة في تعقيداتها الخلق عند ستيفان زفايغ وهو يتوغل في عالم كل من موزارت وبيتهوفن للإبانة عن البصمة الفارقة في النبض الإبداعي. لأن معرفة العمل الفني لا تكتمل برأي زفايغ دون الإحاطة بظروف نشأته. من جانبه يقدم الكاتب الأميركي رايموند كارفر ورقته بشأن موضوع الإبداع وما يهتم به هو لمسة المبدع ويفاجئك بقوله إن الموهبة في كل مكان لكن أيّما كاتب يمتلك طريقة مميزة للتعبير فهو يطأ بقدمه في منطقة الخلود. وما يكون بمثابة تعويذة في برنامج كارفر هو كلام أيزاك دينسن التي قالت إنها تكتب القليل كل يوم بلا أمل ولا يأس.

 من المعلوم أن  النقاش ما يزال على أشده حول العلاقة بين الإبداع والنقد، وهل يؤثر الأخير على خطوط النص الإبداعي؟ تنفي الكاتبة البريطانية زيدي سميث أن يكون بإمكان الناقد إسداء أي مساعدة للمبدع أثناء الكتابة. برأيها أن النقاد والأكاديميين يتفرغون لتحليل الحرفة بعد رؤية النص، أما ممارسة المهنة فهي ليست ضمن اهتماماتهم.

تتوقف سميث عند تجربتها لقراءة “كيف يعمل الخيال؟” لجميس وود وما إن تصل في قراءتها إلى فصل يتناول فيه المؤلف “الراوي العليم الحميمي” حتى تشعر بالصراع بين ذاتها القارئة والأخرى المبدعة، فالأولى تعجبها آراء المؤلف السديدة بينما الثانية تريد رمي الكتاب لأن قراءة عن هذا الموضوع تشبه استماع المرء إلى أنفاسه.

ويتسرب ما سمعه الكاتب الإسباني خابيير مارياس عن جده الأكبر في كوبا إلى تضاعيف رواياته مشيرا إلى طيف حكاية إنريكي مانيرا في أول قصة ينشرها في 1978 ومن ثم يستحضر الجد في رواية “ظهر الزمان الداكن”.

السؤال الذي يراود المتلقي هو أي مشترك بين كل من وردت أسماؤهم سلفا؟ ولا يشق على القارئ تحديد المنطقة التي تتقاطع فيها الآراء عن العمل الإبداعي، وهي أن كتابة الرواية عملية شاقة لكن تصاحبها متعة الاكتشاف. يقول مارياس “إن كنت أعلم كل شيء من البداية، فما المنطق في وضعها على الورق إن كنت لن أكتشف جديدا أثناء عملية الكتابة”، كذلك الأمر لدى هنري ميلر الذي يرى بأن الكتابة هي كالحياة تماما رحلة اكتشاف.

13