البيان والتبيين

أعرف أن عنوان مقالتي هذه، يٌحيل إلى كتاب سيد النثر العربي أبي عثمان الجاحظ، وكتابه الأكثر شهرة “البيان والتبيين” الذي لو توقفنا عند ما قيل فيه، لكنا بحاجة إلى عدد كبير من الصفحات، ويكفي ما قاله ابن خلدون، حين عده مع ثلاثة كتب أخرى، هو رابعها، في معرض حديثه عن الأدب، إنها أصول الأدب وأهم أركانه، وهي بالإضافة إلى البيان والتبيين، أدب الكاتب لابن قتيبة والكامل للمبرد والأمالي لأبي علي القالي.
والبيان لغة، هو الوضوح، أما التبيين فهو التوضيح والكشف، إذ جاء في محكم الكتاب “ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء”، لكنني لست بصدد الكتاب المذكور ولا بصدد المعنى اللغوي لمفردتي البيان والتبيين، وإنما أحاول أن أستذكر ما دار بيني وبين صديق عتيق ومثقف عريق من كرد العراق، أظنه مما ينفع، إذ سألني – مستفزا- عن شخص مثير للجدل، حتى صار موضع تندر، لأن ما يدخل من أقواله في محيط البيان على خصام مع التبيين، أي الوضوح، ولا أريد أن أذكر اسمه، لأن ما أحاول تناوله لا يتعلق بشخصه، وإنما بما يمثل من حالة معروفة في عالم القول وعالم الكتابة.
لقد سألني صديقي هذا قائلا: أتعد فلانا على ثقافة ما؟ وقبل أن يكمل سؤاله أو يستمع إلى إجابتي، استدرك قائلا: لقد التقيت به أكثر من مرة، فوجدته يعتقد بأنه واحد من كبار مثقفي الدنيا، بينما لم أفهم الكثير مما كان يقول، فهل يعود عدم فهمي إلى عمق ما يقول؟ وأنا قد قرأت ما كتبه مفكرون كبار وفي أكثر من لغة واستمعت إلى متحدثين أجانب خلال عملي الوظيفي وبخاصة في مرحلة عملي الدبلوماسي، فكنت أفهم في الحالتين، حالة القراءة وحالة الاستماع وأتواصل مع بعضهم وقد أحاورهم.
قلت له: سأتجاوز ما هو شخصي في سؤالك، بل سأتجاوز قصدك منه، وأتوقف عند الجانب الموضوعي فيه، فهذا الشخص الذي تسألني عنه، لم أعرف له كتابا منشورا، ولم أقرأ له بحثا مكتوبا، واستمعت مثل كثيرين إلى بعض ما يقول في هذه المناسبة أو تلك، إذ يردد معلومات شائعة ومعروفة، ولكن بلغة معقدة وملتبسة وفضفاضة، فينتابني إحساس بأنه معجب بلغته هذه أكثر مما هو معجب بما يردد من معلومات تتسم بالسذاجة، وهو بهذا متفيهق وليس مثقفا، والمتفيهق هو الثرثار المتنطع المتبختر الذي يجعل الواضح غامضا ويزيد الغامض غموضا.
وللغموض أو عدم التبيين، في القول والكتابة، سبب بسيط لا يحتاج إدراكه إلى ثقافة استثنائية، فإما أن يكون القائل أو الكاتب، على غير معرفة وجادة وعميقة بالموضوع الذي يتناوله في القول أو في الكتابة، فلا يستطيع التبيين في ما يقول أو في ما يكتب، عن قضية لم تتبين له بوضوح، وهذا يؤدي إلى ما أشرت إليه من قبل، حيث يجعل الواضح غامضا ويزيد الغامض غموضا.
وإما أن يكون قاموس القائل أو الكاتب، فقيرا وقاصرا، ويعجز عن تحقيق التبيين في القول والكتابة، فيتسم أداؤه اللغوي بالارتباك واللغو والمبالغة، وتختفي أكثر الأفكار وضوحا وراء هذا الفقر اللغوي، وتقود نتائجه إلى كل ما هو غامض وثقيل ومفتعل من أساليب القول والكتابة.
وطالما كان مثل هذا الأداء اللغوي، مصدرا للسخرية من القول والقائل ومن الكتابة والكاتب، وأذكر أن شخصا كان يحتل موقعا وظيفيا مهما، ويتوفر على مؤهل علمي جيد، واستهوته الكتابة الصحافية، غير أن ما كان يكتبه لا يفهمه محرر الصحيفة ولا رئيس تحريرها ولم ينشر ما كان يكتبه، فاشتكى إلى مسؤول كبير، فأحال شكواه إلى أحد المثقفين المعروفين بالكفاءة والموضوعية، فعلق بالقول وبنبرة لا تخلو من السخرية، لم أفهم هذه الكتابات، وأخشى أن يكون جهلي هو سبب عدم فهمي.