البورتريه أداة لاكتشاف الآخر لدى السورية خلود خويص

تعيد الفنانة السورية خلود خويص تشكيل العالم وشخوصه كما تراه وكما تشعر به، دون التخلي عن سطوة زمانها وأماكنها، فهي وإن استقت من رؤى الأولين مرجعيتها الأولى في الفن إلا أنها تخلق فضاءاتها المميزة والمشبعة بالدلالات والرموز والمنفتحة على الواقع واللاواقع.
"نشأت في السويداء بجمال طبيعتها، وألوانها القوية الصريحة. كان كل شيء يثير حفيظتي الفنية، أجلس أوقاتا طويلة أترصد الغيوم، وخاصة أثناء الربيع؛ حيث أقرأ فيها صوراً، وأتخيل حكايات كنت أترجمها إلى لوحات تثير دهشة والديّ ومن حولي. حتى الصخور البركانية وأحجار الخفان كنت أجمعها وأرصفها كأنها تكملة لتلك الحكايات، وأخيطها بأجمل الصور، وكان كل حجر يعني لي بألوانه المتعددة، ولها ركن خاص أعرضها في المنزل، من هنا تكوّنت ذاكرتي الفنية، كبرت وكبرت بداخلي هذه المفاهيم الجميلة لكل ما هو نفيس".
هذا ما تقوله الفنانة التشكيلية خلود خويص في أحد حواراتها القليلة والتي توحي برغبة ذات دلالة لفنانة حلّت عليها النعمة.
ولا يكفي خويص أن تستحضر نصوصاً قد تستدعي منها ما يعينها على اقتفاء منجز بكل آثاره، بل هي وبما تملكه من حضور رمزي عالق بالأثير الصافي ترسم حركة ما، تشير بها إلى ارتقاء ما وفق طريقتها الخاصة التي تلح عليها في البحث عن نسق تستله من مقامات تجربة تتلاشى فيها الكثير من التصورات بمفرداتها التي تأتي من الإنسان إلى الحياة، وعن الكثير من اللحظات بحركاتها الصاعدة إلى الحلم القديم الذي يرافقها منذ واجهت جمال الوجود أو حتى رعبه، واجهت سمو الإنسان أو حتى تغريبته.

وتمتلك الفنانة في ذهنها المتقد بصور التطهير بالماء أو بالتراب دلالات توحي لها بالحب أو بالوجع وفق جاذبية الروح وجهات نهوضها، وفق تجدد الحياة مهما كانت ماضية على دروب المخاطرة، أو على دروب أشد العناصر إحياء للكائنات، فهي تتوغل داخل مناطق العزلة ذاتها لتبدل ميادين عملها وما يطالها من مفاهيم ذاتية قد تكون سبباً في تحويل مساراتها نحو أسئلة تحمل أطروحاتها الجمالية والمعرفية بحرص الضوء على الفراشات، دون انكفاء ودون تراجع. وهي التي سترسم الحدود والضفاف دون مساءلة وإن تعدتهما
متعالية بما تمتلكه من لحظات تاريخية ستستجيب لها ضمن متطلباتها وما يضمن لها استمراريتها ضمن حيّز زماني ومكاني قابل للقراءة والتأويل. فهي تفي بحاجات متلقيها بقدر ما تفي بحاجاتها ضمن رؤية خاصة تتماهى إلى حد ما مع رؤية الأولين وإن بما تسلل إلى خبايا نصها لا للجمه بل لاستشراف لحظات النفاذ الكبير إليه، وإطلاق سراحها بما يفتح لها مجرى للتغاير، وهذا هو سبيلها إلى التطهر من دنس الظلمات، لتصبح فيما بعد متلبسة بالكلام، تسري في تفاصيلها صور اللحظات عند تشابكها.
وثمة إستراتيجية تمضي بها خلود خويص نحو بناء مبناها ومعناها، إستراتيجية بدْء الوجود بالتشكل في لحظة اندحاره، هنا يشرع الطفل في الخروج من صميم الحالات ولحظاتها ويتخلص مما طاله من ركام الآخرين لينجز حركته نحو الأرقى، نحو الأفضل، فهو إنسان المرحلة، بل إنسان الأزمنة، فالبداية بوابات مشرعة على الآفاق، والنهاية نوافذ مفتوحة على البداية إلى أن يشار بالأمل لا بالألم إلى رعب الوجود.
من الواضح أن خلود خويص تستثمر الكثير من الأحاسيس بكل إيقاعاتها وبكل معانيها، وتنتشر في أعمالها من خلال قنوات تكاد تكون إيقاعات موسيقية، سواء كان ذلك عبر الذبذبات المرتبطة ببعض تفاصيلها، والتي ستتردد أصداؤها في مجمل المفاصل على نحو ملحوظ، أقصد مفاصل أعمالها الفنية، أو من خلال ما ترسمه من علامات تستمر في إحداث تغييرات عديدة مصحوبة بالتوقعات الخاصة وبأسلوب حياة داخل العمل الفني ذاته.
خلود خويص تستثمر الكثير من الأحاسيس بكل إيقاعاتها وبكل معانيها، وتنتشر في أعمالها من خلال قنوات تكاد تكون إيقاعات موسيقية
ومن الأدق أن نقول في ضوء ذلك إن الفنانة تنتمي إلى النموذج النشط؛ فهي تفضل اختيار أقوى العمليات التي تلائم مخططها المعرفي وكأنها في حالة ملاءمة الموسيقى الهادئة لعملية الاسترخاء. وقد تنتج عن ذلك مستويات مماثلة من التفضيلات الجمالية مع التأثيرات الخاصة التي ستزيد من احتمالية الاستجابة الجمالية التي تناسب موقفها واختياراتها، والتي ستعدل تصوراتها وفق اهتماماتها بالمتغيرات الجديدة وتأثير ذلك على استثاراتها المختلفة.
خلود خويص تهفو بأحاسيس، بنبرة البوح حيناً وحيناً بنبرة النوح وكأنها بذلك توقع مسيرتها. فالحلم مهما كان كئيباً، تبقى هناك شموع تبتسم وهي تحترق، يبقى هناك قطبان يتجاذبان بين الخفاء والتجلي، فالملفوظات قد استلت من مكونات بانية لأحاسيس ترشح بها الأعمال لحظة تشابكها.
وهكذا لا تتخلى الفنانة عن تلك المكونات التي ستضمن لها "السقوط عاليا" في دائرة قد تحقق مبتغاها، وإن كانت لا تفي بحاجتها الجمالية وهذا يشير صراحة إلى أنها كلما اهتدت إلى منجزات حققتها / تحققها هنا أو هناك تمكنت من رحلة بحثها وما ابتنته من رموز ودلالات في شكل صور تتلقف الكلام وتداخله، وتصر على أنها تحاول جاهدة أن تنتشل الطاقة كنوع من استعادة الدفق الدلالي وما يجاريه، أو ما يجسده من إشارات هي محصلة الاحتماء من وهن كانت قد عطلته من كل مآزقه.
وهي لا تنكفئ على استدعاء التكثيف الدلالي الذي لا يخذلها، وسيتبين حجم ذلك وهي حالمة في حضرة رؤيا لا يمكن أن تعصف بها مهما كانت الرياح هوجاء.

فضاءات خلود خويص لا تنفصل عن زمنها، فالزمن مهما كان مروياً من المرويات لا يخلو من دلالاته، وتستدل عليها الفنانة بالإحساس الذي يفوق إحساس المؤمن بوصايا الكهنة، فتشمر عن واحاتها الكثيرة لتنطلق منها وجوهها الكثيرة، الوجوه التي ترفض أن تنقاد بريش مقيدة نحو مآلها، فلا بد أن تنزع اللثام عنها وتجبرها على التواجد في النطاق الذي يزاحم تعبيريتها في مساهمة رسمه.
وتركز الفنانة السورية على ما هو قابل للتأويل، وتبدي اهتماماً بكل الموجودات التي ستفسر بوصفها مصادر للغد الذي لم يأت بعد، فهي الأكثر إيماناً لا بالناموس المقدس ولا بالقضاء والقدر، بل بفلاحة الوجوه وحرثها بالريش، منتهكة حرمتها حتى تنعم بالعواطف والأحاسيس والرموز الإنسانية، وجوه تصغي إليها كلما ومضت من بين أصابعها، فقد تلح مثلاً على توسيع دائرة الانفتاح لوجوهها بوصفها دائرة المكاشفة بامتياز عن لحظات التقاطع المستتر بين الواقع واللاواقع، عن رغبة جارفة في شدها إلى المجاز المكافئ لطموحها. وهي تستثمر خبرتها في خدمته، وتحرز نجاحاً تلو الآخر، وهي بذلك تزيد جرعة أخرى من الحب على ضفافها، إلى جانب مرانها الطويل لكل ما يملأ عليها تفكيرها.
وتمتلك الفنانة الإتقان والإجادة في ما تصنعه من أولويات تملأ دواخلها بالأحاسيس التي تغرد على هيئة أشكال مختلفة في تلك الوجوه التي تغطي جزءاً مهماً من سيرتها منذ أمد طويل. فهي قد تتخذ من وجوهها بلبلاً أو عندليباً، حبات انتظار ذاع صيتها ولم تهطل إلا حينما تذهب هي إليها تجرها بملامح لا تفارقها، أو رماد من التعب تذروه الريح بعد أن تعرض لتلك الريشة الهائلة، ولتلك القسمات التي تغلفها النوافذ من الخارج، والجدران من الداخل فيدب الذعر بشظاياه، والحب بحرارته، فالأمر في مجمله حياة وإنسان وكلاهما يتساقط بين الحقول النائية التي استحالت بدورها رمادا يندفع إلى مسافات بعيدة في الروح.
وتمتلك خلود خويص خصوبة الحياة التي ستكون أداتها الأهم في كشف الآخر بمكنوناته الداخلية، وهذا سر آخر تمضي به لتحقق شيئاً مختلفاً، نعم شيئاً مختلفاً، وما طريقتها في رسم البورتريه بهذا الحس العالي والجديد إلا ثمرة ذلك الاختلاف، فهي تحقق شيئاً جمالياً إبداعياً لا يشبه إلا تلك اللحظة التي تحدثنا عنها، شيئاً لا يمكن أن يستغنى عنه مهما تعاملنا مع مفاهيم تنبت فيها أسئلة جديدة. فالدفء الشرقي الذي يطغى على شخوصها تجعله يسافر في العمل كله وبالتالي إلى متلقيه، ويبدأ حينها بالإنعاش ضمن دهشة البحث في حقول من اللون بكل أحاسيسه، ضمن دهشة الانتماء إلى زمن بكل مراراته.