البريطاني داميان هيرست يتخلى عن التقليلية لتزهر لوحاته أشجار كرز مبهجة

للمرة الأولى في فرنسا، ينظم متحف مؤسسة كارتيي بباريس معرضا فنيا للبريطاني المثير للجدل داميان هيرست، يحتفي بآخر إنجازاته، وتتمثل في سلسلة لوحات أطلق عليها “أشجار الكرز المزهرة”، أنجزها بنفسه خلال أشهر من الحجر الصحي.
ولد البريطاني داميان هيرست في بريستول عام 1965، ونشأ في ليدز، واستقر في لندن منذ 1984. عمل في حظائر بناء طيلة سنتين قبل أن يلتحق بمعهد غولد سميث للفنون، فبادر منذ عام 1988 إلى إقامة معرض للطلبة ساهم فيه عدد من رفاقه.
بعد التخرّج شجّعه هاوي تشكيلات على إعداد معرض فريد يلفت الانتباه، فأنجز ما أسماه “استحالة الموت الجسدي في عقل شخص حي”، وهو عبارة عن سمك قرش تمت تغطيسه في قفص زجاجي مملوء بالفورمول، أتبعها بسلسة “التاريخ الطبيعي”، وهي عبارة عن مجموعة حيوانات، كاملة أو مقطّعة، معروضة في أحواض زجاجية مملوءة بالفورمول، لا تلبث أن ترمى مع النفايات بسبب تحللها بمرور الوقت، ولكنها كانت سبب شهرته وبداية انطلاقته. وقد مارس هيرست منذ ذلك الوقت النحت والتنصيب والفن التشكيلي والرسم، وكانت ثيماته دائما متصلة بالحياة والموت.
وهيرست من الفنانين الذين يحظون بحضور واسع في وسائل الإعلام، ولكنه أيضا من القلائل الذين يرميهم النقاد بسهام لاذعة، ذلك أن الفن اقترن في ذهنه بكسب ما أمكن من أموال، ولعل ذلك راجع إلى الوسط المتواضع الذي نشأ فيه، ما دفعه إلى اتخاذ الفن صناعة، حيث يستعين بفريق كامل داخل مؤسسة قائمة الذات يتولى إدارتها وتسييرها لإنجاز ما يروقه من أعمال مثيرة، على غرار الأميركي جيف كونز والياباني تاكاشي موراكامي.
هيرست يستعرض في لوحاته الجديدة حقولا من أشجار الكرز يضفي عليها الأزرق السماوي مناخا ربيعيا رائقا
وهو في ذلك يتمثل كلّ ما في الليبرالية من شراسة ليغمر سوق الفن بأعمال باهظة الثمن، لأنه فهم قانون العرض والطلب، مثلما فهم آلية التباهي التي تسم مجتمع الاستهلاك كان عالم الاقتصاد والاجتماع الأميركي ثورشتاين فيبلن قد حللها في كتاب “نظرية الطبقة المرفهة” (1899)، وبيّن أنه كلّما زاد المنتوج غلاء ازداد إقبال الموسرين عليه، للتفاخر والتظاهر والمفاضلة، بصرف النظر عن قيمته الحقيقية.
إنه لم يتردّد ذات مرة عن عرض مجموعة من أعماله في “سوثبيز” للمزاد العلني، قائلا إن “الفن يحتاج إلى الترف، مثلما يحتاج الترف إلى الفن”. ففي رأيه أن شراء عمل فني بسعر مرتفع هو مؤشّر على المكانة الاجتماعية، تماما مثل حقيبة من البلاستيك، تحوز قيمة مضافة لكونها تحمل علامة تجارية مسجلة معترف بها عالميا؛ فيغدو السعر الباهظ للوحة حاجزا ماديا لا يستطيع تخطيه إلاّ الموسر، كي يوفّر متعة التظاهر بمكانة اجتماعية متميزة.
شجّعه على ذلك إقبال مشاهير الأثرياء مثل الفرنسيين فرنسوا بينو وبرنار أرنو، اللذين يعتبران الفن سلعة، كسائر المتنفّذين في المجتمعات الاستهلاكية، ما دفع بعض رموز الفن المعاصر إلى إنتاج أعمالهم كما تنتَج المواد الصناعية، بالجملة، وفي ورشات أشبه بالمصانع. وقد بلغ بهيرست حبّ المال إلى حدّ صار يرفض فيه المرور بأروقة تروّج أعماله ليقوم بتأسيس متحف خاص به في لندن، نيوبورت ستريت غاليري.

وبعد مشروعه النحتي “كنوز من حطام ما لا يمكن تصديقه” الذي استغرق فيه عشر سنوات، عاد هيرست إلى موضوع تقليدي هو رسم المناظر الطبيعية، الذي شغل الحركات الفنية الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، من الانطباعية إلى “أكشن بانتينغ”، حيث يعمد مثل أندري وارول إلى ما يسميه “سبوت بانتينغ” و”سبين بانتينغ” ليمارس الرسم والعمل الفردي داخل مرسم، وينجز لوحات “أشجار الكرز المزهرة”؛ وهي سلسلة فاقت المئة، ولم يختر ما يعرض منها حاليا في متحف مؤسسة كارتيي بباريس سوى ثلاثين لوحة.
وبعكس أعماله الأخرى التي كان يعتمد في إنجازها على فريق عمل ضخم، يعامل أفراده كأي مدير شركة لا يفكّر إلاّ في الربح، حيث يقوم بفصلهم متى يشاء، كما فعل عند استشراء الجائحة، أنجز هذه اللوحات بمفرده، وفق قوله، طيلة ثلاث سنوات، كان يصعد خلالها على سلم ويداوم طبع الألوان على القماشة باستعمال عصيّ تنتهي بقطيلة، أو ببخاخات ألوان يرشّ بها القماشة كما يفعل بولوك ووارول وسائر أعلام التلطيخية.
وهي لوحات ضخمة مطلية مسبقة بلون أزرق سماوي خال من الغيوم، ثم يقوم هيرست بصبغها بآلاف من البقع الملونة، بالأخضر الفاتح والبني الضارب إلى الأرجواني والأزرق النيلي والأبيض الباهت والأحمر القاني، في شكل دوائر تتراوح من حيث سمكها وحجم استدارتها.
والنتيجة حقل من أشجار الكرز يضفي عليها العمق الأزرق السماوي مناخا ربيعيا رائق الجمال، يتكرّر من لوحة إلى أخرى بنفس الصيغة، وإن حاول تنويع أزهار الكرز وتغيير مواضعها، ولكن يظل الأفق فيها غائبا.
عن تلك اللوحات التي قال داميان هيرست إنه رسمها بيديه وقلبه قبل أن يرسمها بفُرشه، أي دون اللجوء إلى تلك الأيادي المغمورة التي اعتادت إعداد أعماله الأخرى التي حاز عنها شهرة واسعة، صرّح قبيل المعرض بأن “أشجار الكرز المزهرة مبهرجة، مبعثرة وهشّة، بفضلها ابتعدتُ عن التقليلية كي أعود بحماس ورغبة شديدة إلى عفوية الحركة التصويرية”.
