البذور الأصلية تعيد رسم خارطة إنتاج المحاصيل في تونس

400 مزارع يتخلون عن البذور الهجينة لتقليص التكاليف والتكيّف مع التغيرات المناخية.
الخميس 2021/09/02
الإنتاج بأقل التكاليف

يكشف ميل شريحة واسعة من المزارعين في تونس إلى استخدام البذور الأصلية بدل المهجنة، اقتناع العاملين في هذا القطاع الاستراتيجي بأنها تشكل إحدى الأدوات المهمة حاليا لمواجهة التغيرات المناخية المتسارعة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وكسب معركة استدامة المحاصيل.

الجديدة (تونس) – بدأ مزارعون في تونس بالتعاون مع جهات حكومية في تنسيق جهودهم لإحياء استخدام البذور الأصلية، في مسعى منهم للحد من موجة الجفاف التي تضرب البلاد منذ سنوات والتي جعلت الزراعة من أضعف القطاعات مردودية.

ويبدو الفرق الواضح الذي يمكن ملاحظته هو جودة المنتج والقيم الغذائية العالية التي تحملها البذور الطبيعية، كما أنها تتمتع بقدرة أكبر على مقاومة الآفات والتأقلم مع الرطوبة.

ويركز البعض على هذا الاتجاه، ومن بينهم لسعد بن صالح الذي يشرف في مزرعته بمنطقة الجديّدة شمال غرب العاصمة على حصاد القمح لهذا الموسم، الذي هو ثمرة بذور أصلية.

وكان بن صالح في الماضي، كما غيره من المزارعين التونسيين، يعمل في كل موسم على تخزين جزء من محصوله من البذور الأصلية التي تسمى كذلك “المحلية” لكي يستعملها للبذر في المواسم المقبلة.

لكن ومنذ أن بدأت الأسواق تطرح على المزارعين أصنافا جديدة من البذور المهجنة أو المعدلة جينيا، والتي تمنح محاصيل وافرة واستقرارا في الإنتاج وتنتج ثمرا نوعيا يلبّي طلب سوق الاستهلاك، تراجع الإقبال على الأصلية.

وقبل ثماني سنوات، قرّر بن صالح “إحياء” بذور القمح من نوع “المساكني” لأنها أقل كلفة في شراء الأسمدة والأدوية، وأقلّ حاجة إلى الماء وإلى عمليات الري في بلد يعاني من ندرة في المياه.

مبارك بن الناصر: الأصناف المحلية تتأقلم مع الجفاف وقيمتها الغذائية عالية

ويقول بن صالح لوكالة الصحافة الفرنسية “ترددت في البداية ثم غامرت وحصلت على نتائج جيّدة لأن البذور الأصلية تقاوم شحّ المياه، وأستعمل معها كمية أقل من مبيدات الحشرات”. ويضيف أنه جنى أرباحا “بثلاثة آلاف دينار (ألف يورو) في الهكتار الواحد هذا العام”.

ويشير بن صالح إلى أن البذور المهجنة “ضعيفة وسرعان ما تؤثر فيها الفطريات”، فضلا عن أنه مجبر على شراء البذور كل موسم، لأنه لا يمكن استخدام بذور من حصاد البذور الهجينة لإعادة زرعها، بينما يمكن الاحتفاظ ببذر من الشتول الناتجة عن بذور أصلية.

ووفق تقرير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، تصنف تونس ضمن مؤشر “متوسط” و”مرتفع جدا” لمخاطر الجفاف في العالم. وتقول منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) إن الاستخدام المتزايد للبذور الهجينة يشكل تهديدا متواصلا يمكن أن يؤدي إلى اختفاء البذور الأصلية، وبالتالي فقدان التراث الجيني المحلي.

وقدّرت المنظمة أن نحو 75 في المئة من التنوع الجيني للمحاصيل في العالم اندثر في القرن الماضي، إذ تحوّل المزارعون في جميع أنحاء العالم إلى زراعة أصناف وراثية موحدة تنتج محاصيل وافرة، والتخلي عن الأصناف المحلية المتعددة.

ويعتبر الباحث في علوم البيولوجيا ماهر المديني أن “البذور الأصلية خزّان لجينات تعود إلى المئات والآلاف من السنين، وهي قادرة على التأقلم مع تحديات التغير المناخي في المستقبل”.

وتعتمد الزراعة في تونس على مياه الأمطار المخزنة في السدود أساسا، وتنبّه وزارة الفلاحة إلى أن نقص الأمطار في السنوات الأخيرة أثّر سلبا على مخزون السدود الذي تراجع إلى النصف تقريبا.

ويقول الباحث في السياسات الغذائية أيمن عميّد “البذور الأصلية تتلاءم وخصائص تربتنا وتقاوم التغيرات المناخية التي تشهدها البلاد”.

وتستورد تونس 70 إلى 80 في المئة سنويا من بذور الخضراوات لإنتاج الكميات الكافية للسوق وللتصنيع، وتقوم بتهجين بذور القمح محليّا، لكن بنك الجينات وبعض منظمات المجتمع المدني يعملان منذ سنوات على ردّ الاعتبار إلى الموروث الجيني.

ويوضح مبارك بن الناصر، المدير العام لبنك الجينات الذي تأسس في 2007، أن الأصناف المحلية لها خاصية “التأقلم التام مع الجفاف بالإضافة إلى قيمتها الغذائية”. وأكد أن البنك تمكن من إقناع أكثر من 400 مزارع باستعمال البذور الأصلية.

وحسب دراسة لبنك الجينات، فإن القيمة الغذائية في البذور الأصلية مرتفعة ونسبة البروتين في الحبوب ذات المنشأ المحلي “تتراوح بين 14 و17 في المئة، بينما تنخفض النسبة في الأصناف الهجينة أو المستوردة إلى ما بين 10 و12 في المئة”.

وتعمل هذه المؤسسة على جمع بذور قديمة من المزارعين وإكثارها، وتمكنت كذلك من استقدام أصناف أخرى ندرت في تونس وتم العثور على عينات منها في بنوك جينات في دول أخرى أوروبية وآسيوية وفي أستراليا لأنواع من الأشجار المثمرة والحبوب والخضراوات.

ويوضح بن صالح أن محصول القمح لديه هذه السنة “فاق 50 قنطارا في الهكتار الواحد”، مقارنة بالمعدل الوطني للبذور المهجنة الذي يتراوح بين 14 و20 قنطارا في السنوات الأخيرة.

80 في المئة

نسبة ما تستورده تونس سنويا من بذور الخضراوات بينما تقوم بتهجين بذور القمح محليا

لكن إنتاج البذور الأصلية لا يؤمّن استقرارا وانتظاما في الكميات كما البذور الهجينة. ورغم ذلك، عادت أصناف قديمة من بذور القمح مثل “المساكني” و”جناح خطيفة (جناح السنون)” و”المحمودي” لتظهر من جديد لأنها، بحسب مزارعين، “ابنة هذه التربة وتعرفها جيّدا”.

وتتسع المساحة المخصصة لزراعة “المساكني” سنويا كما يؤكد بن صالح، الذي يقدّر بأن هناك نحو 500 هكتار في تونس مزروعة من هذا الصنف، ويتوقع أن تُزرع ثلاثة آلاف هكتار بها العام المقبل في مختلف ولايات البلاد.

ويقول المزارع أسامة بحروني إنه اقتنع بدوره باستخدام البذور الأصلية في موسم البذر القادم، وسيخصص 20 هكتارا لذلك. ويوضح أن “القرار جاء إثر معاينة مع مزارعين آخرين… هم نجحوا، إذا سأنجح”.

ويرى بن ناصر أن البذور الأصلية “تساهم في تدعيم الأمن الغذائي في البلاد”، مضيفا “يجب التعويل على أنفسنا. خلاف سياسي مع بلد أو وباء كالذي نعيشه اليوم، يمكن أن يمنعنا من شراء البذور لمحاصيلنا”.

وتشير تقديرات وزارة الفلاحة إلى تراجع معدل استعمال البذور المحلية الأصلية في تونس من 65 في المئة عام 1975 إلى 25 في المئة عام 2004، وإلى ما يقارب 5 في المئة فقط حاليا.

10