"البدايات".. عودة إلى سنوات الإبداع الأولى وجماليات التجربة

استعادة لبدايات فنانين مصريين من جيل الرواد وحتى جيل الألفية.
الاثنين 2023/11/20
فضائيات ملونة (مصطفى عبدالمعطي)

البداية محطة حاسمة في مواصلة العمل الإبداعي، محطة فارقة في نفس الفنان وتجربته، يسلط عليها معرض “البدايات” المنعقد حاليا الضوء، ليقول إن البدايات هي صانعة التجربة، هي المعبر الحقيقي عن الفنان، عن شخصيته، عن موهبته وعن رؤيته وحتى المكانة التي وصلها، فبعض الفنانين كانت أولى لوحاتهم كافية لاكتشاف عبقريتهم.

في كل العصور ومع أغلب الناس، البداية دائما هي الخطوة الأصعب، خطوة يعيش فيها المرء صراعا بين ثقته بنفسه وما تملكه من قدرات وحذره المفرط من الفشل، إنها نقطة انطلاق سترسم مستقبله، سواء كان الأمر بداية وظيفة، أو بداية علاقة أو حتى بداية ممارسة فنية يحبها.

وفي الفن عامة، والفن التشكيلي خصوصا، البداية ليست بداية واحدة، بل هي بدايات متواترة، لمن يفهم أن المقارنة والتعلم من بدايته لا نهاية لهما. والفنان التشكيلي المؤمن بموهبته والمهتم بالتقييم  الذاتي لتجربته، دائم الحنين والعودة إلى علاقته الأولى بالمحامل والألوان والأدوات وحتى المدارس الفنية، يسافر بينها وبين آخر أعماله، ليتأمل تطور الأسلوب وتنوع المدارس ويفكر في بداية جديدة، لمشروع جديد. إنه يخوض تجربة بدايات لا تنته حتى وإن غاب عن عالمنا، لتظل لوحاته شاهدة للآخر على بداية أحد الفنانين الذي حلم ذات مرة أو لمرات عديدة بعمل جديد وبداية جديدة.

حول البدايات وصعوبتها وقلة نضوجها، يأتي معرض “البدايات”، الذي يحتضنه قصر الفنون – ميدان دار الأوبرا في العاصمة المصرية القاهرة، من الخامس وحتى الثالث والعشرين من نوفمبر الجاري. هذا المعرض جاء كتجمع فني يسلط الضوء على بدايات 149 فنانا مصريا من أصحاب التجارب المؤثرة من أجيال مختلفة، بداية من جيل الروّاد وحتى جيل الألفيّة الثانية، على أن يكون المعرض من دورات متعددة، يفتتح به كل عام موسم المعارض بقصر الفنون.

ومن بين الفنانين الروّاد المشاركين نجد محمود سعيد، وعبدالهادي الوشاحي، وعبدالهادي الجزار، وناجي وسيف وحسن سليمان، وأدهم وانلي، ومختار وعزالدين نجيب، وغيرهم. واختار منظمو المعرض تنويع الأسماء لفسح المجال أمام دورات قادمة، تجعل المعرض حدثا سنويا دوريا ومهما. هذه الدورة الأولى من “البدايات” هي كما وصفها البيان المصاحب “دورة تجريبية”، وفي النهاية هي بدايات الفنانين الذين رأوا بأنفسهم أن هذه هي بداياتهم الحقيقية، أو بداية تبلور شخصيتهم الفنية، أو بداية إحدى مراحل تجاربهم الإبداعية.

في البدايات، يتوه الفنان بين الأساليب الفنية، ومن الطبيعي أن يتأثر بتجربة أساتذة له أو بمدارس فنية بعينها
♦ في البدايات، يتوه الفنان بين الأساليب الفنية، ومن الطبيعي أن يتأثر بتجربة أساتذة له أو بمدارس فنية بعينها

ويقدم المعرض مختلف مجالات الفنون التقليدية مثل النحت والتصوير والطباعة، ويتجاوز عدد الأعمال المعروضة 400 عمل، والهدف منه تقديم رؤية بدايات الفنانين وكيف تطور إنتاجهم عبر مراحل زمنية مختلفة من بعد البدايات، وسيمثل هذا المعرض إن استمر فعلا، حدثا سنويا مهما للأبحاث العلمية والرسائل الأكاديمية وللفنان نفسه، من حيث تمكينه من الاطلاع على تجربة فنانين آخرين، بدايتها ونضوجها.

ورغم أن هناك دوما من يخجل من بداياته المتعثرة وغير الناضجة، هناك الكثير من الفنانين الذين يحبون بداياتهم، يمتنون لعثراتهم، ولمحاولاتهم الناقصة والمترددة التي أوصلتهم إلى “نهايات مكتملة”. بعضهم اليوم يتأمل بدايته ضاحكا يسكنه الحنين، وبعضهم يراها أفضل من أعماله الراهنة، وبعضهم الآخر تدفعه إلى إعادة اكتشاف نفسه ورؤيته والمعنى والهدف من وراء ما يمارسه من فن. وربما يعتمدها بعض آخر كـ”فيتامين للشغف” يتناوله من حين إلى آخر لتعيد إليه الرغبة في تقديم المزيد والتمسك بحلم الشباب.

ومثلما غصت قاعات المعرض الخمس بالأعمال الفنية وحولت قصر الفنون إلى متحف مهم، غصت مواقع التواصل الاجتماعي بصور اللوحات، بعضها نشرها زوار منبهرون بأعمال نادرة خبأها أصحابها في مراسمهم الخاصة، وبعضها نشرها الفنانون أو ذويهم مفتخرين بلحظات نادرة شهدت على ولادة فنانين كبار.

من هؤلاء، الفنان الكبير عبدالهادي الجزار (1925 – 1966) وهو من جيل ما بعد الرواد وأحد أهم الفنانين المصريين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

يتيح لنا المعرض فرصة نادرة لاكتشاف هذا الفنان، وتأرجحه بين البداية والبداية من جديد، وهو الذي بدأ تجربته القصيرة والثرية بالرسم بأسلوب شعبي متأثرا بالسريالية والتقاليد، ونقوش من المشاهد الحضرية للقاهرة والمعتقدات الدينية الشعبية. ويعرض “البدايات” لوحة من بدايات الفنان بالأبيض والأسود، عاد إليها بعد نضوج تجربته الفنية، ليشتغل على نسخة جديدة منها بالألوان، مستوحاة من الموروث المصري، وهي معروضة ضمن المجموعة الدائمة لمتحف المتروبوليتان في نيويورك، وبين اللوحة الأولى والثانية تغير الأسلوب والرؤية الفنية لكن الأساس والهوية لم يتغيرا.

كذلك تحضر بداية الفنان مصطفى عبدالمعطي (1938) الملقب بـ”ملك الحوار بالألوان التشكيلية” والذي يوظف منذ ستينات القرن الماضي أشكاله الهندسية ليصوغ حوارا بين الماضي والحاضر، حتى صار أحد أهم رموز تلك الحقبة الزمنية، وأحد أهم مؤسسي التشكيل المصري المعاصر. وفي هذا المعرض، تحضر له لوحة تعيدنا بالزمن نحو بدايات التلفزيون الملون. وهو هنا لا يتجه نحو الرسم الواقعي وإنما يأخذنا بأسلوبه التجريدي نحو أشكال هندسية ملونة، تحيلنا إلى اللحظات الأولى التي يشاهد فيها المتفرج لون الأهرامات والألوان الطبيعية من البيئة المصرية عبر الفضائيات.

وتحضر أعمال النحات محمد توفيق (1941) الذي بدأ بأسلوب يجسد المأساة في كتل متماسكة تبدو الأجساد حولها وكأنها نحت بارز رغم استدارتها ثم اتجه نحو خامة الخشب، وأصبح بجرأته من أهم النحاتين في مصر. ويقدم المعرض منحوتة للفنان بعنوان “الشواء” وكان قد نحتها للتعبير عن تجاوزات الاحتلال الإسرائيلي في الحرب على مصر عام 1967، وهي عود على بدء لبدايات حروب لا تزال تعاني منها المنطقة العربية.

كذلك تشارك الفنانة التشكيلية ريم حسن (1971) ضمن جيل التسعينات، بعمل تقول إنه عرض لأول مرة خلال معرض جماعي انتظم عام 1996 لعدد من فناني جيل التسعينات وكان بعنوان “عشرة فنانين سكندريين”، وكان من المعارض المهمة التي وثقت تجربة مدرسة أتيليه الإسكندرية للفنانين الشباب في ذلك الوقت. وهي لا تزال إلى اليوم تحاول رؤية الأشياء بشكل مغاير، والبحث عن العالم الغامض المفقود خلف مظاهر الطبيعة، ساعية إلى إعادة الاعتبار لفن الزخرفة وعالم الزخارف الإسلامية.

♦ المعرض يتيح لنا فرصة نادرة لاكتشاف عبدالهادي الجزار الذي بدأ تجربته القصيرة والثرية بالرسم بأسلوب شعبي متأثرا بالسريالية والتقاليد

لا يسعنا المرور في هذا المقال على كل الأسماء المشاركة، لأسباب عديدة، لكننا بالتأكيد أمام معرض مهم، وبداية جيدة لتسليط الضوء على موهبة الفنانين المصريين، تستعرض المئات من الأعمال الموزعة بين النحت والبورتريه واللوحات المتنوعة التي تبعث في الزائر كما بعثت فينا أسئلة لا تنته ولم نجد لها إجابات مباشرة.

في البدايات، يتوه الفنان بين الأساليب الفنية، ومن الطبيعي أن يتأثر بتجربة أساتذة له أو بمدارس فنية بعينها، وفي البدايات قد ينوع الفنان الأساليب ويخوض في مدارس لا يحبها فقط ليجرب متعة التجريب، وفي البدايات أيضا قد يتمرد الفنان على الأسلوب السائد بين فناني جيله، كل تلك الملامح للبدايات هي من تصنع المسيرة وتضع كل فنان على الخط الذي سيتبعه وسيميزه عن غيره من الفنانين.

وفي حيدثه عن المعرض قال الدكتور وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية، إن “توجيه الفنان لبوصلة تجربته الإبداعية هو أهم مرحلة في مسيرته الفنية. مع بدء الإنتاج يتشتت الفنان ويتأثر بدراساته ومعلميه والخبرات التي اكتسبها من تجارب الرواد والمدارس المختلفة حتى يجد ما يبحث عنه وسط حالة من التجريب والبحث.. يجد نفسه، أو دعنا نقول، يجد شخصيته. فن فني، وهذا ليس بالأمر السهل. هناك الكثير ممن درسوا الفن ومارسوه ولم يجدوا طريقهم. إنها اللحظة التي تفصل بين تحقيق فنان واحد وتجوال آخر”.

قد تكون الدورة الأولى من هذا المعرض، جاءت غير مرضية لبعض الفنانين، فمنهم من استغرب طريقة توزيع اللوحات وعرضها دون منهجية واضحة، وربما حتى الاكتفاء بعرض لوحات لبدايات فنانين لا يعرفهم الزائر ويحتاج إلى البحث عن أعمالهم الأكثر نضوجا كي يقارن بين بداياتهم الفنية وحاضرهم، لكنها تظل كما هي كل البدايات، محاولة غير ناضجة كفاية، يمكن الاشتغال عليها والمزيد من تطويرها، للمرور على بدايات العشرات من الفنانين المصريين الآخرين، ولاسيما أولئك الذين يعملون في صمت ويبدعون بعيدا عن الشهرة والمجاملات الاجتماعية الزائفة وينشطون في الأرياف والمناطق البعيدة عن المدن المزدحمة بالفن والسكان.

15