البدائل الثقافية الحديثة: تربكنا الأدوات وتعوزنا المضامين

اختفى عهد الرواد والمعلمين وبدأ عصر التجارب الفردية.
الجمعة 2022/10/21
كتابات متحررة من الضوابط الكلاسيكية

بدأ المشهد الأدبي والفكري الحديث منذ سنوات يفقد ضوابطه الكلاسيكية التقليدية، وصار مرتهنا لمبادرات فردية تتقوقع على قناعاتها، فتنتج مادة مختلفة لا تخضع للمعايير النقدية اللازمة، وهو ما تسبب في حالة ارتباك ثقافي كبرى أغرقت السوق بمضامين لا ترتقي إلى ما يقدم ضمن حركة النشر العالمي، همها الوحيد مواكبة التطور السريع.

حتى تسعينات القرن الماضي، كانت الأجناس الأدبية والفنية تأخذ في تصنيفها منحى كلاسيكيا ثابتا لا يتزحزح، سواء كان ذلك في ما تقترحه من موضوعات أو في ما يتابعها ويلاحقها من خطاب نقدي.

كانت المفاهيم والتعريفات تتأسس على ما تقترحه أسماء بعينها من إنتاجات، فالشعر مثلا، لا بد له أن يكون شبيها بما كتبه محمد الماغوط ومحمود درويش وأدونيس، والرواية هي ما يقترحه جمال الغيطاني وغيره من بني جيله وممن يدور معه في نفس الفلك.

قس على ذلك في الكتابة الدرامية للمسرح والتلفزيون، وكذلك فنون الإخراج والأداء، أما الفنون التشكيلية فلا تكاد تبرح النسج على منوال بعض الأسماء المكررة والمكرسة.

الآن، وقد تحررت النشاطات الإبداعية من منطق الحضانة وعقدة الوصاية، أصبح بإمكاننا تذوق أي أثر إبداعي دون السؤال عن صاحبه أو عمن يدين لهم بالولاء والانتماء المدرسي.

الجميع صار يمد خطواته كيفما شاء لأن لا كساء لديه حتى يحدد له مشيته، إذ اختفى عهد الرواد والمعلمين، وبدأ عصر يخوض فيه كل واحد تجربته بمفرده ودون أن يقتدي بأحد.

الحرية المطلقة في ممارسة الفنون والآداب أو حتى خلطها وتطويعها أنتجت نوعا من الضبابية التي تفتقد للمعايير الفنية

صار كل صاحب تجربة إبداعية معلم نفسه، فلا نماذج ولا أساتذة ولا أمثلة ولا من يقلدون.

هذه الحرية المطلقة في ممارسة شتى أنواع الفنون والآداب أو حتى خلطها وتطويعها، تسببت في غياب المتابعة النقدية والدراسة التحليلية فأنتجت نوعا من الضبابية التي تفتقد المعايير الفنية.

صار بإمكان أي فرد أن يقدم على أي “فعل إبداعي” – أو هكذا يسميه – دون ضوابط فنية أو معايير نقدية يلتقي عندها النقاد ويتفقون عليها.

جميل أن ينفلت المرء من القيود الصارمة وينطلق حرا في سماء الإبداع، لكن غياب الخلفيات والمرجعيات يحدث إرباكا في التلقي فيختلط ويتشابه الغث بالسمين.

المسألة هنا لا تتعلق بالتحرر من الوصاية الأبوية في الفعل الإبداعي، وإنما بضرورة البحث عن أرضية لقاء تخص ذائقة التلقي وإن اختلفت مشاربها وتعددت.

ما ينتج اليوم من إبداعات ثقافية على مستوى العالم العربي يتميز بالتفاوت من الكم والتصنيف القيمي، إذ ما ينظر إليه في هذا البلد على أنه فعل إبداعي متميز، يزدريه المتلقي في بلد آخر وكذلك في زمن آخر.

كما أن هناك تفاوتا كبيرا في عملية التلقي بين جنس فني وآخر فتلقي الرواية والإقبال على قراءتها جعلا نقادا كثيرين يعتبرونها ديوان العرب الحقيقي وليس الشعر الذي يمعن الكثير في ازدرائه.

علاقة الإنسان بالفنون تزداد غموضا وتشابكا كلما تشعبت أساليب الإنتاج والتلقي

وفي هذا الصدد، يقول الناقد والكاتب فتحي عبدالسميع إن الشعر يعاني من محاولات إعلامية متواصلة لتشويه صورته، وتسخيف الشعراء، وترسيخ صورتهم بوصفهم كائنات نرجسية هائمة، تعيش عالة على المجتمع، وظيفتها في الحياة هي كتابة الخطابات الغرامية، أو التعبير عن الحب في أشد صوره سطحية وابتذالاً.

أما على صعيد الفنون التعبيرية الأخرى فالحال ليست أفضل من علاقة الناس بالشعر والرواية التي تتطلب بدورها الانزواء لقراءتها وكتابتها، ذلك أنها ليست من تلك الفنون التفاعلية ذات الصفة المنبرية والمسرحية.

علاقة الإنسان بالفنون تزداد غموضا وتشابكا كلما تشعبت أساليب الإنتاج والتلقي. وهذا الأمر لا يقتصر على العالم العربي بل في العالم أجمع، مما جعل المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) تنبه أن ليس هناك فهما عالميا محددا لمفهوم الإبداع.

إنه مفهوم مفتوح على التأويلات ابتداء من التعبير الفني وانتهاء بمهارات حل الإشكالات في إطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. ولذا، أعلنت الجمعية العامة يوم الحادي والعشرين أبريل يوما عالميا للابتكار والإبداع لإذكاء الوعي بدور الإبداع والابتكار في جميع مناحي التنمية البشرية.

وبالعودة إلى علاقة المجتمعات العربية بالآداب والفنون، فإن الأمر لا يرتبط بنسب التعلم أو الأمية بقدر ما يرتبط بالتقاليد المجتمعية وكذلك الوعي بمفهوم الحرية الفردية التي تسمح بالاختلاف والتفرد وكسر التقاليد السائدة.

Thumbnail

العالم كله أصبح يتجه نحو بدائل ثقافية تعكس مزاج العصر وسلوكه، فلا الشعر ولا الرواية ولا المسرح ظلت كما كانت عليه هذه الفنون فترات الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

الإحساس بعبثية الواقع وما آل إليه العالم من كوارث أدى إلى المزيد من التمزق والانحدار الأخلاقي، جعل أساليب التعبير توغل في غرابتها ومجافاتها لأصولها، مما صنع إرباكا في حالتي الأداء والتلقي أثر على الذائقة النقدية بصفة عامة.

المشكلة في العالم العربي هي حالة مرعبة من التبعية الثقافية ناتجة عن تبعيات سياسية واقتصادية، لذلك جاء الإنتاج الفني والأدبي مشوشا، مشوها وغير أصيل.

هذا الارتباك الفني والثقافي جعلنا نشعر بنوع من الخواء الذهني، فلا نحن ظللنا على كلاسيكيتنا في صورتها القديمة والمكررة، ولا نحن خضنا غمار التجريب واكتوينا بنار الحداثة، ذلك أن كل شيء لدينا مهجّن وغير ضارب في الأعماق.

العالم فقد عقله وقلبه وأعصابه بداية الألفية الجديدة وأنشأ قطيعة معرفية ازدادت شراسة مع الثورة الرقمية وفرضت أساليب تعبير جديدة، فلمَ نعطس نحن إذا أصيب الغرب الأوروبي والأميركي بالرشح؟

انخرطنا في حداثة لا ننتمي إليها وتنتمي هي إلينا، فلماذا نرهق أنفسنا بالأدوات وكيفية صنعها وصياغتها دون أن نمتلك المضامين؟

13