الباقي الهرماسي الذي عرفته

مثل كل المدرسين والخطباء الناجحين كان الهرماسي يرى الطرافة في تناقضات السياسيين وقصر نظرهم ومولعا بالجوانب الإنسانية وبالعلاقات البشرية التي كثيرا ما كانت تحدد كبرى القرارات في تونس والمنطقة.
الجمعة 2021/10/29
كان بالفعل للهرماسي ما يقدمه

قامة فكرية وسياسية أخرى تغادر بصمت تونس وسط ضوضاء السياسة والأزمات.

انسحب عبدالباقي الهرماسي بعد أن غاب عن الساحة السياسية والفكرية خلال العشرية الأخيرة، إلا في مناسبات قليلة. لكن هذا الجامعي ذي السمعة العالمية ترك بصماته على الرصيد الثقافي التونسي والعربي كأحد أبرز علماء الاجتماع خلال العقود الأخيرة.

لم يكن “سي عبدالباقي”، كما كنا نسميه، مثقفا عاديا.

لم يكن من المثقفين الراغبين في الجلوس على الربوة. لم يشأ أن يكتفي بالأنشطة البحثية والكتابات الأكاديمية رغم أن كتبه ومحاضراته سبغت عليه سمعة في الداخل والخارج كان يمكن لوحدها أن تؤثث مسيرة متميزة لأي مثقف.  

 ترك وراءه مؤلفات مثل “الدولة والمجتمع في المغرب العربي” و”نظرة جديدة على العالم الثالث” و”المـغرب العربي في مواجـهة التحولات الدولية” وغيرها من الأعمال المنشورة بالعربية والفرنسية والإنجليزية، بالإضافة إلى مساهماته في تأليف عدة إصدارات من بينها “أزمة الديمقراطية في العالم العربي” و”التغييرات السياسية في المغرب العربي”.

الباقي الهرماسي الذي عرفته يستحق، بعد رحيله، أن تتذكره تونس كأحد أكبر رجالات علم الاجتماع والثقافة الذين عرفتهم البلاد منذ الاستقلال

كان الهرماسي مثقفا مسكونا بهموم بلاده وبالإشكاليات الكبرى التي تواجه المنطقة المغاربية والعالم العربي، يتابع أطوارها عن كثب ولم يبق مُنظّرا في برجه العاجي. كان من الباحثين القلائل القادرين على ربط الأحداث السياسية بخلفياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

الميزة الأولى للهرماسي هي إدراكه أن التطور المجتمعي والسياسي في بلاده لا يخضع بالضرورة لمفاهيم جامدة.

كان قادرا على التحليل الدقيق خارج القيود التي يمكن أن يفرضها الاصطفاف الأيديولوجي. لا وفاء له إلا للتشخيص الدقيق. 

لذا تطورت مواقفه تجاه السلطة والأحزاب، ومنها بالخصوص الحركات الإسلامية، بشكل يواكب التحولات الحاصلة على أرض الميدان. وبعكس ما تراءى للبعض لم يتناقض الهرماسي في آرائه بل إنّ المنعطفات الحادة للحركات السياسية وتفاقم أزماتها هي التي حددت المنعرجات الحاصلة في مواقفه.

الميزة الثانية للهرماسي أنه كان مثقفا فاعلا في الخارج. لم يكن ذلك فقط بفضل زاده المعرفي بل أيضا بفضل قدرته على التفاعل عبر الثقافات. عرفته في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات محاضرا ومحاورا ومشاركا لا يكل في الندوات الأكاديمية عبر الولايات المتحدة. إضافة إلى إتقانه الكامل للإنجليزية، كانت له موهبة في تفكيك هيروغليفيات الأحداث السياسية في تونس والمغرب العربي وجعلها في متناول جمهوره الأميركي. كان في مقارباته التحليلية يجتنب التبسيط الذي يفقد الأحداث كنهها كما يبتعد عن القوالب السائدة في الغرب، خاصة تلك التي تنبني عليها أعمال الكثير من الباحثين الأميركيين المختصين في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مثل كل المدرسين والخطباء الناجحين، كانت النكات المستمدة من عالم السياسة تمنحه فرصة الاقتراب أكثر من الجمهور الأجنبي. كان يرى الطرافة في تناقضات السياسيين وقصر نظرهم ومولعا بالجوانب الإنسانية وبالعلاقات البشرية التي كثيرا ما كانت تحدد كبرى القرارات في تونس والمنطقة. 

كان بعض الخبراء الأميركيين يسألون عن موعد زياراته القادمة، وذلك للجلوس إليه والإنصات إلى التحاليل التي كان يترجم لهم فيها ما يحدث في تونس والمغرب العربي، بلغة يفهمونها. 

كانت تونس وحياتها السياسية هي مركز اهتمامه الأول.

 وبعد ارتقاء بن علي إلى السلطة سنة 1987 اقترب الهرماسي من أصحاب القرار، وبعد فترة مراقبة للأوضاع أظهر الهرماسي استعدادا، خاصة في بداية التسعينات، للنزول إلى معترك السياسة والقبول بمسؤوليات رسمية.

الميزة الأولى للهرماسي هي إدراكه أن التطور المجتمعي والسياسي في بلاده لا يخضع بالضرورة لمفاهيم جامدة

مثل الأكاديميين الأميركيين الذين خالطهم كان براغماتيا ولذلك لم يستنكف من المرور عبر “الباب الدوار” الذي ينقل المفكر إلى ردهات القرار السياسي والمناصب الحكومية.

وكانت البداية بتقلده مهام سفير لتونس لدى منظمة اليونسكو.

كان بفعل احتكاكه بالثقافتين الفرانكفونية والأنجلوسكسونية بالإضافة إلى معرفته العميقة بالإرث العربي الإسلامي مؤهلا للمساهمة في تعزيز قيم التواصل والحوار بين الأمم والعمل على إبراز المميزات الحضارية لبلاده وزيادة إشعاعها.  ثم كان توليه وزارتي الثقافة والشؤون الخارجية بعد سنة 1996.  

لم تسمح له الوزارتان بمواصلة التركيز على تأليف الأعمال السوسيولوجية والمساهمة في إثراء المكتبة العربية، كما كان بالتأكيد يتمنى. ولكنه كان هانئ البال بأن عمله الحكومي كان يحتوي على قيمة مضافة لا تقل أهمية.

الباقي الهرماسي الذي عرفته يستحق، بعد رحيله، أن تتذكره تونس كأحد أكبر رجالات علم الاجتماع والثقافة الذين عرفتهم البلاد منذ الاستقلال. وهناك في أعماله ما يستحق عناية الأجيال الصاعدة إن هي أرادت أن تفهم الديناميكيات التي تحكمت مدة عقود في مسار المجتمعات والطبقات السياسية في تونس وجوارها الواسع.

يستحق أيضا أن تستلهم النخبة الفكرية في تونس والعالم العربي دروسا من علاقاته الوثيقة بالمجتمع والسياسة، دروسا أساسها أن المثقف لا بد أن يخرج أحيانا من عباءة النخبوية، إذا ما كان له ما يقدمه لأمته وبلاده. وكان بالفعل للهرماسي ما يقدمه.

8