الباحث عن وظيفة لن يستطيع مواجهة الذكاء الاصطناعي

الصراع التكنولوجي المحتدم بين دول العالم المتقدم حول الذكاء الاصطناعي سيحدث تحولات كبرى في موازين القوى العالمية.
الأحد 2024/08/04
الروبوتات ستتجاوز عدد البشر

يمر الذكاء الاصطناعي (AI) بنمو هائل مع إيجاد تطبيقات جديدة في عدد متزايد من القطاعات، بما في ذلك الأمن والبيئة والتعليم والصحة والثقافة والتجارة إلى جانب الاستخدام المتزايد التعقيد للبيانات الضخمة.

يتفق بعض الباحثين والمراقبين على أن الذكاء الاصطناعي سيصبح رقما أساسيا في الاقتصاد العالمي، وبلغة الأرقام، تتوقع شبكة غارتنر (Gartner) للأبحاث أن يرتفع الاقتصاد العالمي للذكاء الاصطناعي من حوالي 1.2 تريليون دولار، الذي كان عليه في عام 2020، إلى حوالي 3.9 تريليون دولار بنهاية عام 2024، بينما ترى وكالة ما كنيزي (McKinsey) أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستحقق نشاطا اقتصاديا عالميا بقيمة 13 تريليون دولار مطلع 2030، وبحلول العام نفسه، تقدر برايس ووترهاوس كوبرز (PricewaterhouseCoopers) ما قيمته 15.7 تريليون كحصيلة شاملة، وأبعد من ذلك يعتقد المستثمر في مجال التكنولوجيا تيج كولي أن نمو الطلب على الذكاء الاصطناعي سيكون أسرع بكثير، ومن المحتمل أن يبلغ اقتصاده قيمة 150 تريليون دولار بحلول عام 2035.

قد تبدو تلك الأرقام واقعية لدى البعض، وهي تفاؤل مبالغ فيه لدى البعض الآخر، لكن التطورات السريعة التي عرفتها تكنولوجيا التعلم الآلي باعتبارها حقلا فرعيا من الذكاء الاصطناعي (AI)، جعلت الاعتقاد بأننا سنعيش قريبا في عالم مليء بالروبوتات من حولنا، أمرا خاليا من الغرابة كما كان في السابق.

◄ بإمكان الذكاء الاصطناعي رصد الأنماط من بين الملايين من نقاط البيانات المتوفرة ليقدم اقتراحات بالجزيئات التي يمكن استخدامها كدواء، ولكن لا يمكن مع ذلك الاستغناء عن المختص بالكيمياء الحيوية لأختبار جدوى هذه الجزيئات

قبل عشر سنوات فقط كان قليلون من الأكاديميين والمراقبين يتوقعون مثل هذه الانطلاقة غير العادية في اقتصادات الذكاء الاصطناعي وتداعياتها المحتملة على هيكل توازن القوى العالمية. وكانت أكاديمية “برايس ووتر هاوس كوبرز” التي تعتبر واحدة من كبرى شركات الخدمات والاستشارات المهنية في العالم قد توقعت في تقريرها الصادر في منتصف العام 2017 بشأن مساهمة الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الدولي، أن تصل تلك المساهمة إلى 15.7 تريليون دولار أميركي من وقت صدور التقرير وحتى العام 2030، أي ما يفوق الناتج المحلى الإجمالي للصين والهند معا، مع الأخذ بعين الأعتبار أن قيمة الاقتصاد الكوني حاليا تقدر بنحو 74 تريليون دولار أميركي، وأنها ستزيد بنحو 14 في المئة بحلول العام 2030.

ومن دون شك، يبدو أن الصراع التكنولوجي المحتدم حاليا بين دول العالم المتقدم، وفي مقدمتها أميركا والصين، على مستوى الأبحاث والتطبيقات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، سيحدث تحولات كبرى في موازين القوى العالمية، ولاسيما بعدما أعلنت الحكومة الصينية بشكل واضح عن خطتها الهادفة إلى ريادة مجال الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2030.

ربما شاهدنا في الآونة الأخيرة التقدم الكبير الذي حققته تقنيات الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات، خاصة الصناعية، حيث يعود الفضل في ذلك إلى التطور المتسارع والمتنامي في علوم التكنولوجيا وظهور التقنيات الحديثة، وهنا نتساءل: ما هو مستقبل الذكاء الاصطناعي في العقود القادمة؟

يتوقع البعض من العلماء أن الفترة القليلة المقبلة ستشهد استعمالا كبيرا للأجهزة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي جعل شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل جوجل Google وميكروسوفت Microsoft وفيسبوك Facebook، تحاول دخول هذا السوق التجاري الجديد.

تسهم ثورة البيانات الضخمة والهائلة في تزويد أنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي بكفاءات عالية لم يكن بالإمكان الوصول إليها في السابق، فبعد نجاح شبكة الإنترنت في جعل العالم كالقرية الصغيرة يسهل التنقل بين ربوعها خلال فترة دقائق معدودة، أصبح الآن من الممكن استقطاب الأشياء لإيصالها بشبكة الإنترنت تلقائيا، لمراقبة جميع الظروف البيئية المحيطة والاستجابة بناء على المعلومات التي تجمعها تلك الأشياء، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى بناء جيل من الروبوتات واستخدامها في كل مجالات الحياة.

◄ الإنسان الطبيعي الباحث عن وظيفة لا يستطيع أن يقف في مواجهة التقدم التكنولوجي والازدهار المعرفي بل عليه أن يواكب ذلك التقدم التكنولوجي والتنمية المعرفية، لكي يتفوق على قدرات التكنولوجيا التحويلية
الإنسان الطبيعي الباحث عن وظيفة لا يستطيع أن يقف في مواجهة التقدم التكنولوجي والازدهار المعرفي بل عليه أن يواكب ذلك التقدم  لكي يتفوق على قدرات التكنولوجيا التحويلية

تشير بعض التقديرات إلى أن سوق العمل سيشهد خسارة كبيرة تصل إلى ما يقارب 50 مليون وظيفة حول العالم خلال العقدين القادمين بسبب الاعتماد على النظم الروبوتية وتقنية الذكاء الاصطناعي، وأن العدد في ازدياد كلما تطورت صناعة النظم الروبوتية وتطورت تقنية الذكاء الاصطناعي، ومن الناحية الفعلية فإن تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل قد يكون إيجابيا، فمن المتوقع أن تخلق بيئة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي حوالي 20 مليون وظيفة جديدة في مجالات متعلقة بالحوسبة والهندسة الميكانيكية والرياضيات، كما أن أطفال المستقبل سيعملون في وظائف جديدة مستحدثة غير موجودة أساسا الآن ولا نعرف ما هي، وربما وظائف علماء اليوم ستكون وظائف للموظفين العاديين في المستقبل، ولا نستطيع التنبؤ بعلماء المستقبل ولا نستطيع تحديد مهاراتهم وقدراتهم العلمية لأنه من الممكن أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان ويصبح خطرا عليه بسبب التكنولوجيا التحويلية.

ومن المحتمل أن صناعة الروبوتات ستوفر بيئة جديدة من الوظائف الإشرافية فقط لأن مصانع تصنيع الروبوتات ستعتمد على الروبوتات في تصنيعها لأنها تتطلب مواصفات دقيقية وعالية جدا ومن المحتمل أن يتساوى عدد الروبوتات في العالم مع عدد البشر لأنه كما يحتاج كل إنسان هاتفا نقالا خاصا به وكل طفل آيباد خاصا به فإنه في المستقبل المنظور سيحتاج كل إنسان طبيعي إلى روبوت خاص به يكون مستشاره الخاص وحارسه الشخصي وصديقه المخلص والأمين الذي لا يعرف الخيانة أو الغدر هذا بالنسبة للرجال والشباب.

وفي الاتجاه المقابل سيكون احتياج المسنين للروبوتات أكثر بكثير من سابقيهم وذلك أن الروبوتات سترفع عنهم الحرج أمام أبنائهم وأمام من سيعولونهم، وفي نفس الاتجاه فإن الأطفال سيبحثون عن الروبوتات الصغيرة والتي سيجدون فيها أحلامهم وتطلعاتهم بأنهم هم أصل الجيل الرقمي وأن التكنولوجيا التحويلية بالنسبة لهم ثقافة عصرهم.

من ناحية أخرى أعتقد أن الروبوتات في العالم ستتجاوز عدد البشر الموجودين على سطح الأرض، كما نعتقد أن الروبوتات ستلغي شركات التأمين وشركات الضمان الاجتماعي باعتبار أن ما ستدفعه طوال حياتك الوظيفية للحصول على قسط ضمان اجتماعي لتدفع به ثمن الرعاية الطبية والخادم الشخصي لأنك تجاوزت العقد السابع من العمر، فإن الروبوت سيغنيك عن كل ذلك.

سيقدم الروبوت لك كل خدمات الرعاية الصحية والحماية الأمنية والإعاشة والتموين والنقل والمساعدة في الحركة بل له القدرة على نقلك إلى الحمام ومساعدتك في كل ما تقوم به وأنت في خصوصية تامة وسعادة تامة بدلا من الاتصال بأحد الأبناء أو البحث عن الزوجة وهي في زحام الأسواق لكي تنقلك إلى دورة المياه، وبالتالي قليل من المال لشراء روبوت سيوفر لك الكثير مما ستدفعه للشركات ولا تعرف هل ستستثمره وأنت في العقد السابع من العمر أم أن الموت سيداهمك وأنت في عنفوان حياتك الوظيفية، وما دفعته من أموال طيلة عقود مضت راح هباء منثورا.

 كما أن الذكاء الاصطناعي سيعزز القدرة على الإنتاج عن طريق السرعة في التصنيع وتوفير قدر كبير من الوقت الضائع في غير محله، باعتبار أن الوقت والزمن هما عنصرا القوة والإنتاج في العصر القادم.

 وفي الحقيقة إن الآمال في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي مرتبطة بهذا الجانب، إذ إننا نسعى لأن يكون الهدف من هذه التقنية تنمية النشاط البشري لا استبداله بشكل كامل، ففي حقل الطب على سبيل المثال سيكون الذكاء الاصطناعي قادرا على تحديد وتصنيف 400 نوع من السرطان بالإضافة إلى 75 نوعا من الأدوية المختلفة التي تساعد مثلا في علاج سرطان الثدي المنتشر بكثرة لدى النساء خاصة في سن مبكرة من الزواج وأن يقوم بذلك بسرعة وبكفاءة عالية جدا، ولكن الطبيب وما يمتلكه من سنوات طويلة من خبرة مهنية ودورات أكاديمية هو المسؤول عن وضع خطة العلاج.

أما في المجالات المالية فثمة برمجيات مشهورة مثل تيربوباكس والذي يستخدم الخوارزميات لمساعدة المستخدم في حسابات عائدات الضرائب، وهذا البرنامج يعتمد على المدخلات وعلى الأحكام البشرية لإتمام المهمة بنجاح.

◄ البعض من العلماء يتوقع أن الفترة القليلة المقبلة ستشهد استعمالا كبيرا للأجهزة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي جعل شركات التكنولوجيا العملاقة تحاول دخول هذا السوق التجاري الجديد

 فما الطريقة إذا لضمان العمل في وظيفة يساهم الذكاء الاصطناعي في تعزيزها ولا يساهم في استبدالها؟

لقد توصل الباحثون إلى العديد من الاقتراحات وأولها هي تلك الإستراتيجية المعروفة للارتقاء بالعمل الوظيفي وهي زيادة التحصيل العلمي، فعند زيادة القدرة الإدراكية للموظف وتكون قدراته أعلى من قدرة الكمبيوتر الذي يستخدمه في معالجة البيانات، عند ذلك يضمن الموظف عدم خسارته للوظيفة وهذا أمر بعيد الاحتمال لأن الواقع أثبت تفوق قدرة الكمبيوتر على قدرة الإنسان.

ومن الأمثلة على ذلك ما تقوم به بعض شركات الأدوية التي تستخدم تقنية المسح الاختباري عالية الوتيرة والجودة لتحديد الأدوية الممكنة، فبإمكان الذكاء الاصطناعي رصد الأنماط من بين الملايين من نقاط البيانات المتوفرة ثم يقدم اقتراحات بالجزيئات التي يمكن استخدامها كدواء، ولكن لا يمكن مع ذلك الاستغناء عن المختص بالكيمياء الحيوية لأختبار جدوى هذه الجزيئات في العلاج.

وهنالك إستراتيجية أخرى تتعلق بتطوير مهارات ليست في متناول الذكاء الاصطناعي فهناك وظائف ترتبط بالقدرة على التعاطف وقراءة المؤشرات الاجتماعية لقياس مستوى تأثير الرأى العام حول قضية عاطفية، فهذه مهارات ليس في وسع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها الآن، لأنها تتطلب القدرة على فهم الواقع والقدرة على فهم الآخرين فهما موضوعيا وهذه أمور لا تدخل في نطاق البرمجة الحالية.

 الإنسان الطبيعي الباحث عن وظيفة لا يستطيع أن يقف في مواجهة التقدم التكنولوجي والازدهار المعرفي بل عليه أن يواكب ذلك التقدم التكنولوجي والتنمية المعرفية، لكي يتفوق على قدرات التكنولوجيا التحويلية، ولا يجد نفسه ينتظر في أحد الطوابير لإجراء مقابلة مع روبوت يحدد له الحصول على وظيفة مرموقة أم أنه سيكون مهندسا لشتلات الزهور في فناء منزل تعيش فيه عائلة روبوتية.

8