الانتقال الديمقراطي في تونس.. 7 سنوات من التيه

مخاوف من استمرار هذا التيه السياسي، خاصة أن الأحزاب باتت تحرص على استمرار حالة الغموض، وهو ما يعني استمرار إهمال المسائل الحيوية وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الأزمة الاقتصادية.
الخميس 2018/10/25
ثورة لم تقم بأي تغييرات على مستوى الوضع الاجتماعي والاقتصادي

مرت سبع سنوات على أول انتخابات بعد الثورة، انتخابات 23 أكتوبر 2011، وهو عمر يسمح بتقييم تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس والخروج بنتائج ولو مؤقتة بشأنها، خاصة أن العالم ينظر إلى هذه التجربة على أنها اختبار حقيقي لنجاح الديمقراطية في المنطقة.

ولعل أبرز ملاحظة في هذا الانتقال أن تونس حصرت نفسها في زاوية التنافس لإنجاح هذا الانتقال، وجعلته محورا لبرامجها واستثماراتها ونقاشاتها في الداخل والخارج، وتحول الأمر إلى ما يشبه اللعبة الغامضة في بلد كان الناس يمنون أنفسهم بأن تحمل لهم الثورة نقلة نوعية في حياتهم، خاصة في الملفات الاقتصادية والاجتماعية، لكن سيطرة الهم الديمقراطي ألغى مختلف الهموم الأخرى.

ويقول الكثير من المتابعين إن ما يجري في تونس هو تحويل الديمقراطية من مشروع للتنمية والانتقال الشامل إلى معركة الديمقراطية لأجل الديمقراطية، أي معركة بين النخبة ولفائدة النخبة التي تسعى لبسط سيطرتها على المشهد، وصارت تتوسل بكل السبل إدامة هذا المربع المغلق.

وبالنتيجة، فإن ثورة 2011 مكنت للمهتمين بالشأن السياسي، وجعلتهم مركز الاهتمام الإعلامي والشعبي إيجابا وسلبا، لكنها لم تقم بأي تغييرات على مستوى الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتُركت إدارة المسألة الاقتصادية لاجتهادات رؤساء الحكومات خاصة بعد انتخابات 2014، وفي غياب أي رقابة سياسية أو موجهات بشأن النمط الاقتصادي الذي تتجه إليه البلاد، وهو ما سمح بتدخل أكبر للصناديق المالية الدولية لفرض “إصلاحاتها الكبرى” وسط مباركة من أغلب الأحزاب، والبقية التزمت الصمت، ليس لكونها في حالة ضعف، بل خيرت ذلك في سياق الحسابات السياسية، خاصة أن هناك شكوكا بشأن حصول مختلف الأحزاب على تمويلات من دوائر اقتصادية ورجال أعمال من أجل عدم تعطيل مرور قوانين اقتصادية خادمة لها.

ولم يحصل أن وقعت ضجة داخل البرلمان بسبب مشروع قانون ذي نزعة اقتصادية أو مالية، وحتى المصادقة على الميزانية تتم عادة بسهولة بالرغم ما يحيط بها من نقاشات وأسئلة حادة للوزراء، الهدف منها تسجيل نقاط سياسية وجلب تعاطف الرأي العام، خاصة أن أغلب جلسات البرلمان تنقل مباشرة على التلفزيون الرسمي.

ويمكن الحديث بيسر عن تحالف صامت بين مكونات اليمين والوسط واليسار يقوم على تسهيل مرور الميزانية بالرغم من أن بنودا منها تستهدف الطبقات المتوسطة والفقيرة والمهمشة التي تمثل المخزون الانتخابي لمختلف الأحزاب، خاصة تلك التي ظهرت أو حصلت على الاعتراف القانوني بها بعد الثورة.

وفي التصريحات العلنية لا تفوت الأحزاب “الثورية” (ما بعد الثورة) فرصة للتنديد بتقليص الدعم عن السلع الأساسية والمحروقات وارتفاع الأسعار وتهاوي الدينار، لكن في البرلمان، وفي الحوارات والمشاورات السياسية والحكومية يغيب كل هذا، بمعنى أنها تنوّم الجمهور الانتخابي بالشعارات وتسترضي الداعمين والممولين بالقوانين و”الإصلاحات” التي تزيد من الأعباء على الطبقات الضعيفة.

وحين تشاهد جلسة من هذه الجلسات المباشرة تشعر وكأنك تشاهد البرلمان في جلساته الأولى بعد انتخابات 2011، لا شيء تغير، نفس الوجوه، ونفس الصخب والمزايدات، ومحاولات الظهور في موقع القوة، فضلا عن هيمنة الصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين وخصومهم من اليساريين والقوميين.

ويتحمل هذا الصراع مسؤولية مباشرة في إفراغ الديمقراطية من عمقها الاجتماعي والاقتصادي وحصرها في دائرة المماحكات والصراخ، وكأن ثمة من يخطط لإكراه الناس في الانتقال الديمقراطي، وإظهاره في صورة كاريكاتورية منفرة، وخلق مناخ من التوتر الأقصى قاد في وجه من وجوهه إلى الاغتيالات السياسية في 2013، فضلا عن توسيع دائرة الناقمين على الديمقراطية وعلى السياسيين، وهيمنة حالة من اليأس والتشاؤم عكستها نسب المشاركة في الانتخابات المتتالية، إذ ترتفع نسبة المقاطعة مع كل انتخابات جديدة بالرغم من الحملات الانتخابية الصاخبة التي توظف فيها الأموال التي تخصصها لجنة الانتخابات للأحزاب، والأموال المتسربة من جهات غير معلومة، والحملات الإعلامية خاصة على مساحات الإعلام الجديد.

ورغم انحسار الصراع الأيديولوجي في البرلمان وترك مكانه لتحالفات سياسية تكتيكية مدارها الحكومة، فإن الأمر لم يتغير كثيرا، وعلى العكس بدا أن الانتقال الديمقراطي مجرد مطية لتحقيق المصالح الشخصية للبرلمانيين، وهو أمر يحيل إلى قضية السياحة البرلمانية والحزبية، وهي ظاهرة غريبة يمكن أن تقدم صورة أخرى عن طبيعة الديمقراطية القائمة حاليا، كونها ديمقراطية صورية بلا مضمون، وهذا منطقي لأن الانتخابات لا تتم وفق برامج ولا بدائل، وإنما تتم وفق مقاسات الاستقطاب الأيديولوجي، ما يسمح بتسلل كثيرين إلى القوائم المتنافسة.

وبعد الفوز بعضوية البرلمان يظهر النائب نواياه، ولا يمانع في الانتقال من كتلة إلى كتلة ومن حزب إلى آخر وفق منطق وحيد، القفز لأجل المصلحة والانحياز للأقوى وتركه إن فقد قوته ونفوذه مثلما حصل مع نداء تونس، حيث انتقل نوابه إلى أكثر من جهة وشق، وأغلبهم يصطف حاليا مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد في ضوء توقعات بتشكيل حزب جديد يرأسه ويترشح من خلاله للانتخابات الرئاسية المقررة في 2019، ويمنح هذا الحزب أملا للنواب الذين قفزوا من مركب نداء تونس في أن يعودوا مجددا إلى البرلمان أو يحصلوا على مواقع حكومية.

وليست هناك مؤشرات قوية على أن المرحلة المقبلة يمكن أن تشهد ترشيدا لهذا المسار في ضوء السعي الموجه لتأجيل الحسم في هيئات ضرورية مثل المحكمة الدستورية، أو تمطيط عمل هيئة الحقيقة والكرامة التي لم تنته إلى نتائج عملية سواء ما تعلق بـ”إنصاف الضحايا”، أو المصالحة مع الشخصيات التي كانت مؤثرة في مرحلة ما قبل الثورة، وبدا للمتابعين أن الهيئة صارت ميالة للاستعراض بحثا عن التمديد لها، فضلا عن خلق حالة من الفرجة الإعلامية خاصة بالسعي لإعادة “كتابة” التاريخ في شكل تصفية حساب مع رموز الماضي، أو مع رموز الحاضر، وهو ما يعكسه بكاء وزير الداخلية الأسبق أحمد فريعة على المباشر في إحدى الفضائيات شاكيا من امتهان المسؤولين السابقين.

وهناك مخاوف من أن يستمر هذا التيه السياسي، خاصة أن الأحزاب باتت تحرص على استمرار حالة الغموض، وهو ما يعني استمرار إهمال المسائل الحيوية وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وستكون لذلك تداعيات لعل أخطرها خلق مناخ ملائم يغذي التطرف الديني وفتح الأبواب لعودة الإرهاب.

9