الانتقائية في اختيار ما نقرأ.. التزام أخلاقي لحماية أوقاتنا ومواردنا المحدودة

المكتبة الكبيرة بمثابة منزل دافئ للأفكار والأسرار وسحر الماضي، ومتخصصون ينصحون بقراءة كتب السيرة الذاتية.
الأربعاء 2018/12/26
رفوف الحياة

تصدر دور النشر شهريا المئات، إن لم يكن الآلاف من العناوين في حقول العلم والأدب المختلفة، فيما نعيش ساعات اليوم المحدودة ونحن محاطون بالمعلومات التي تضخها إلينا العشرات من المصادر؛ تلفزيون، إذاعة، صحف، مواقع إنترنت بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، متاحف، مدونات وهناك أيضا الأفلام والبرامج الوثائقية. تتنافس كل هذه التقنيات والمراجع على جذب اهتمامنا، فيما تتزاحم المسؤليات في برنامج حياتنا اليومية لتقطع حصتها هي أيضا من ساعات يومنا.

كيف يمكننا أن نفرز الغث من السمين في هذه اللجة المتلاطمة من أمواج المعرفة والثقافة الذاتية، وكيف يمكننا أن نواكب التطور وننهل من المعلومات في وقت محدود، ثم كيف يمكننا أن نحقق المعادلة المثالية بالجمع مع الكم والنوع في ما يمكن أن نختاره؟

ونطالع بالمصادفة، بعض العناوين ثم نبدأ بتصفح كتاب ما، نسترسل في السطور والصفحات دون أن نشعر بمرور الوقت، وفي النهاية لا ندري هل غلّبنا الوقت أم غلبناه وكأنه كان شريكا لنا في متعة القراءة، بينما يحدث العكس تماما عندما يباغتنا غلاف محبوك بعناية، تغرينا العناوين والأوراق المسقولة بعناية حتى تأتي لحظة النفور فنعيد الكتاب إلى الرف الأبعد في المكتبة كي لا نعود إليه مرة أخرى.

ويؤكد كودي كومرز، الكاتب والباحث والمشرف على مختبر “علم الأعصاب الإدراكي” بجامعة هارفارد الأميركية؛ أننا يجب أن نكون انتقائيين في اختيار مصادر معلوماتنا ومصادر متعتنا في القراءة، العناوين التي من شأنها أن تحدث فرقا في حياتنا مقارنة بأوقاتنا ومواردنا المحدودة، إنه التزام أخلاقي لحماية أوقات القراءة لدينا.

وينصح كومرز بقراءة كتب السيرة الذاتية دون تردّد سواء أكانت تتحدث عن تجربة الكاتب في العمل أم الحياة، فهي تجربة ثرية بالتأكيد تسهّل لك الاطلاع على مسار حياة صاحبها وتجاربه وخبراته وإخفاقاته، وكل ما يكون قد اكتسبه من مهارات وخبرات بإمكانك الاستفادة منها وأخذ العبرة. وعدا ذلك، فإن الوقوف إلى جانب مكتبة كبيرة عامرة بالحكمة والمعرفة وخبرات الحياة على مرّ الأزمنة هو بمثابة منزل دافئ لاحتواء كل هذه الحيوات، منزل لإيواء التجارب والأفكار والأسرار والإخفاقات والجمال والفن وسحر الماضي وعطر الحكمة.

هذه الرفوف الصامتة الصاخبة التي نقف قبالتها كل يوم تقريبا ونتساءل بحيرة، ترى كيف أختار وكم من كتاب ومن أين أبدأ ولماذا عليَّ أن أختار؟

القراءة أمر منوط بالوقت غالبا، حتى إذا كانت اتجاهات القارئ تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى، فدون توفر وقت للقراءة فلا أهمية لبقية التفاصيل. ويضع بعض الأشخاص خطة لقراءة عدد معين خلال العام الواحد، ثم تأتي بعض العراقيل ويتغير البرنامج اليومي بين المستجدات والمفاجآت والحوادث العرضية، فينتهي العام من دون الوفاء بالتزامات القراءة.

القراءة أمر منوط بالوقت، حتى إذا كانت اتجاهات القارئ تختلف حسب العمر، فدون وقت للقراءة لا أهمية لبقية التفاصيل

هذا لا يهم، فيما يؤكد متخصصون أن الأهم أن نضع الخطة ويكون لدينا الوقت الكافي لزيارة مكتبة قريبة للمنزل، إذا لم تتوفر مكتبتنا الخاصة، فوجود رفوف الكتب وبعض المجموعات الموزعة في زوايا المنزل هو مشهد أكثر من رائع، مشهد يضج بالحياة والأمل، يخبرك بأن حياة ما أو قصة ما، مازالت مجهولة بالنسبة إليك وتنتظر أن تكشف عن تفاصيلها، هذا أمر ممتع مع كوب من القهوة أو الشاي في ليلة شتاء دافئة.

ويصف كودي كومرز مكتبة جامعة هارفارد باحتوائها على أكبر نظام لمكتبة جامعية يمكن أن يراها المرء في حياته، وقد اعتاد قضاء فترات الظهر في التجوال بين ممراتها، حيث إنه في بعض الأحيان يكون الشخص الوحيد الذي يتجول في أحد أجنحتها الكثيرة، مع كل هذه الكمية من المعارف والعلوم الإنسانية. وتحتوي رفوف وخزانات المكتبة على الملايين من العناوين، أما التنقل في ماراثون بين جنباتها وممراتها ودهاليزها فيستغرق وقتا ليس بالقصير، فكم يا ترى هو الوقت الذي يحتاجه المرء لقراءة كل هذه الكتب وفي مكتبة واحدة فقط في هذا العالم الواسع؟

وأجرى كومرز مسألة حسابية بسيطة لجرد خزانة واجهة واحدة تحتوي على أرفف متعددة مع عدم إغفال جوانب متعددة من الواجهات، فخرج بنتيجة مفادها أن الفرد الواحد يحتاج إلى الآلاف من الأعمار المضافة إلى عمره لإتمام قراءة كل شيء في هذه المكتبة، ويقول “أنا وأنت، لدينا صف واحد وبضعة رفوف في مكتبة متواضعة، فماذا سنختار لها من العناوين؟”.

وترى ليزا زانشاين، أستاذة اللغة الإنكليزية في جامعة كنتاكي ومؤلفة كتاب “لماذا نقرأ الروايات الخيالية”، أن الكتب والقصص خاصة تتطلب منا قراءة عقول شخصياتها أو مؤلفيها لتخمين ما قد تفكر أو تشعر به هذه الشخصية، وهذه لعبة معقدة وممتعة في الوقت ذاته لاكتشاف الآخرين الغرباء وبالتالي اكتشاف أنفسنا من خلالهم، وهو ما يجعلنا نعيش حياة أخرى داخل حياتنا، فكل ما يتم طرحه في الكتب يعطينا شعورا بالرضا عن أننا سنحقق نتائج جيدة في العالم الحقيقي.

الكتاب، بمثابة رفيق صامت الذي لا يتوقع منك أن تقول شيئا ولا ينتظر منك تبريرا لعدم التواصل، كما لا يكثر من الأسئلة، فهو يقدم خدمات الصداقة والتعاطف من دون مقابل وفي الوقت الذي ترتئيه.

ويمكن للقراءة أن تحول تركيزنا من الذات إلى الآخرين، ووفقا لعالم النفس فيكتور نيل مؤلف كتاب “ضياع في كتاب”، فإن القراءة الجيدة تغلفنا داخل عالم آخر وتغمسنا في حالة غريبة فتأخذنا بالتدريج إلى مستويات أبعد عن أنفسنا وعالمنا الذاتي.

ويوضح نيل أننا ندخل عبر القراءة في عالم مختلف تماما، فنترك عالمنا وراءنا وهذا من شأنه أن يبدد الأفكار السلبية ولو بصورة مؤقتة.

21