الاستقطاب الثقافي يوقظ المصطلحات الأيديولوجية من سباتها

الأزمة الأوكرانية تقسم المثقفين العرب إلى معسكرين.
السبت 2022/03/05
المثقفون كل في معسكر (لوحة للفنان بسيم الريس)

قد يتساءل بعضهم ما دخل المثقفين في ألاعيب السياسة وفي رحى الحروب المدمرة، لكن نظرة سريعة تكشف لنا الدور الكبير للمثقفين في ما يحدث، فهم مبررون لما يفعله السياسيون كل حسب أيديولوجيته، وهم مصطفون في النهاية مع فريق ضد آخر، وبالتالي فهم جزء هام من الصراعات، لكن في العالم العربي يبدو الوضع مختلفا ولو جزئيا.

المثقفون في العالم العربي ينقسمون عند كل أزمة سياسية تهز العالم، إلى معسكرين متخاصمين يتبادل كلاهما تهم التبعية إلى حد التخوين و”الوقوف ضد مصالح الأمة”.

نشهد الآن مثل هذا الاصطفاف الثقافي ذي الخلفية السياسية، على وقع ما يحدث في أوكرانيا من تطورات بعد الهجوم الروسي على أراضيها منذ أيام.

هذا الانقسام في الشارع الثقافي العربي ليس غريبا ولا مستجدا فهو جزء من ارتدادات وردات فعل تحدث في العالم بأسره إذا ما نظرنا إلى حجم الأزمة المتعلقة بالمواجهة بين أكبر قوى العالم بعد الحرب الكونية الثانية.

لا احترام للتاريخ

الكثير من المثقفين العرب مازال يمضي في أوهامه ويسرع إلى الاصطفاف السياسي قبل البحث في حيثيات ما يحدث

كأن المثقفين العرب لم يتخلصوا بعد من أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة قبل تسعينات القرن الماضي، فغالبيتهم، وعلى عكس نظرائهم الأوروبيين، مازالوا يظنون أن روسيا سوفيتية الهوى وهي تواجه الغرب الرأسمالي بنزعته التسلطية وأطماعه الاستعمارية.الغريب في هذا الاستقطاب الحاد بين مؤيدي روسيا من جهة، والمدافعين عن استقلال أوكرانيا وتبعيتها للغرب من جهة ثانية، أن الأمر في العالم العربي لا يخلو من رائحة الأيديولوجيا رغم عدم وجودها أصلا.

صحيح أن عالم القطب الواحد قد أثبت فساده وعدم جدواه بعد سقوط جدار برلين، لكن علينا ألا ننسى أن روسيا اليوم تخلصت بشكل نهائي من أي نزعة أيديولوجية ودفنت الشيوعية مرة واحدة وإلى الأبد، فهي تتضخم على نحو مختلف يجعل من المسألة القومية شوكتها الجديدة التي تعوّض “تصدير الثورة البلشفية”، خصوصا وأنها تنهل من إرث قيصري يريد الزعيم الروسي فلاديمير بوتين إحياءه عبر بروباغندا سياسية تمزج بين القيصرية والستالينية ضمن إخراج رأسمالي حديث.

وصحيح أن روسيا تستند إلى إرث ثقافي عملاق من شأنه أن يثير الانبهار ويدعو للتأني قبل الحكم على نظامها السياسي، لكن هذه الكنوز الأدبية والفنية أصبحت اليوم أشبه بمقتنيات أي متحف تاريخي.

 لم يعد هذا الغنى الفني الممتد إلى عهد القياصرة على تواصل مع الواقع الثقافي لروسيا المعاصرة التي تعيش على إيقاع سلطة المال وما يصنعه من ثقافة الاستهلاك ويخلفه من مافيا المصالح والأسواق، بل وقع توظيفه لخدمة الرجل الذي يتباهى بعضلاته ويستعرض قدراته القتالية في رياضة الجودو، ويستقبل رؤساء العالم بصحبة كلبه وسط المنشآت القيصرية المدججة باللوحات والتحف والتماثيل.

كل هذا لا يعدو أن يكون مجرد توظيف لإرث ثقافي يدعي بوتين الانتماء إليه دون المشاركة في صنعه أو احترامه بشكل حقيقي، دون استعماله لغرض الترهيب السياسي والعسكري.

ولو كان النظام الروسي حريصا على احترام هذا الموروث الثقافي العظيم لنظر إليه بعين المسؤولية وقدّر الذاكرة الأدبية المشتركة بين روسيا وأوكرانيا، والتي تعود، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” نقلا عن علماء وأساتذة التاريخ، إلى الدولة السلافية الأولى، “كييفان روس”، وهي إمبراطورية من القرون الوسطى أسسها الفايكنغ في القرن التاسع، ففي عام 988 بعد الميلاد، تحول فلاديمير الأول، أمير نوفغورود الوثني إلى الإيمان بالمسيحية الأرثوذكسية، وكان ذلك بداية تاريخ وثقافة متداخلة بين شعبين يشتركان في نفس الديانة، وترتبط لغاتهما وعاداتهما ومأكولاتهما الوطنية.

الطموحات السياسية لساكن الكرملين إذن، هي التي استهترت بهذا التاريخ المشترك بين الثقافتين، بالإضافة إلى نزعة السيطرة وعقدة التفوق الروسية التي تعود إلى عهد ستالين، والويلات التي ألحقها بفلاحي أوكرانيا مما جعل العديد من الأوكرانيين يرحبون بالغزو النازي عام 1941.

وكان القوميون الأوكرانيون بقيادة ستيبان بانديرا قد تعاونوا مع النازيين بهدف إقامة دولة أوكرانية مستقلة. وهذا ما يجعل إعلام بوتين اليوم، يصف حكومة أوكرانيا بـ”النازية” مستحضرا السردية الستالينية وهو ما يؤكد، وبالدليل، تمثل رجل المخابرات السوفيتية السابق، لمشروع ستالين الاستبدادي في المنطقة باسم الحفاظ على الوحدة الوطنية.

الاصطفاف الواهم

المثقفون في العالم العربي ينقسمون عند كل أزمة سياسية تهز العالم
المثقفون في العالم العربي ينقسمون عند كل أزمة سياسية تهز العالم

المشكلة هنا أن العالم لم يتعامل مع المنظومة السوفيتية بعد سقوطها بنفس القدر الذي تعامل فيه مع النازية، إذ لا تزال روسيا تحمل طموحها السوفييتي وإن تخلت عن أيديولوجيتها الشيوعية. وهذا ما جعل الكثير من المثقفين اليساريين في العالم العربي تختلط عليه الأوراق ويأخذه الحنين بعيدا نحو روسيا وما كانت تمثله من رمزية قبل سقوط جدار برلين.

بالعودة إلى المثقفين العرب واصطفافهم سواء مع بوتين روسيا أو زيلنسكي أوكرانيا فإن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من التوهم بأن الأول يمثل “قوى التقدم” المدافعة عن كرامة الشعوب، والثاني “قوى الرجعية” المتحالفة مع الغرب الرأسمالي.

مثل هذه التسميات نهضت من سباتها هذه الأيام، وبتنا نسمعها على ألسنة بعض المثقفين العرب، في حين أن الأمر أبعد وأعقد من ذلك بكثير، فلا بوتين في قصره الشتوي يمثل مصالح الجماهير العربية، ولا زيلنسكي الفنان المسرحي الذي خذله الغرب الأوروبي والأميركي، يريد شرا بالمنطقة والعالم.

كل ما في الأمر أن الكثير من أهل الثقافة في البلاد العربية مازال يمضي في أوهامه ويسرع إلى الاصطفاف السياسي قبل البحث في حيثيات ما يحدث كما فعل من قبل أثناء حربي الخليج الأولى والثانية، وكذلك الحالة السورية وغيرها من موجات ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”.

كذلك حدث في بلدان أوروبية أخرى لكن بأقل حدة وتشنجا على شاكلة الجامعة الإيطالية التي أوقفت تدريس أدب دوستويسكي، ومديرة المسرح الروسي التي استقالت احتجاجا على غزو بوتين لأوكرانيا.

كأن التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة تتجدد، وهو ما يذكر بقصيدة لتاراس شيفتشينكو (1814 – 1861) شاعر ورسام ومغن وسياسي وطني أوكراني، يعد مؤسس الأدب الأوكراني الحديث. ويقول في قصيدة “الغربان السود” وكان يجب تمزيقهم !/ تلك الدماء ضرورية، الدم الأخوي/ الحسد الذي بين الأخوة/ في البيوت، وأمام البيوت/ وعندما يعم المرح الكوخ/ نقتل الأخ ونحرق الكوخ/ هذا ما حصل غالبا/ هذا كل شيء، ولكنهم بقوا هناك/ أيتاما وحزانى.

15