الاستفراد ببيادق إيران.. هل سيتوسع الصراع في المنطقة؟

قبل الدخول في صلب الموضوع علينا توضيح نقطة مهمة ينبغي الانتباه إليها عند تفسير التوجهات الأميركية من أي قضية سياسية خارجية كانت أم داخلية. فمنذ تأسيس الولايات المتحدة وإلى يومنا هذا نشهد بين الحين والآخر تباينا واضحا بين توجهات الإدارات وتوجهات المؤسسات. فإداراتها تتخذ قراراتها عادة بما ينسجم مع توجهات الشرائح المؤثرة في الانتخابات، وإن كانت على حساب مصالح الأمن القومي، فترتكب أحيانا ما يمكن تسميتها بشطحات سياسية تقف وراءها مصالح شخصية وحزبية. وقد أدرك المشرّع الأميركي ” الآباء المؤسسون” تلك الحالة فوضعوا لهذه الإدارات مِصَدّات مؤسساتية تصوب تلك الشطحات حال حدوثها وفق ما تمليه مصالح الأمن القومي. وشهدنا ذلك في مواقف كثيرة اختلفت فيها توجهات الإدارات الأميركية مع توجهات مؤسساتها، وبالطبع كان القرار الأخير دائما للمؤسسات وليس للإدارات. إذًا يجب علينا التمييز بين توجهات تلك الإدارات وبين توجهات مراكز القرار فيها.
لا يمكن إنكار أن النّظام الإيراني الحالي قد أبدع في التعامل مع الولايات المتحدة والغرب خلال ما يقرب النصف قرن من حكمه. فلدى إيران مجساتها التي تستقرئ من خلالها وبشكل دقيق تباين المصالح الأميركية مع المصالح الأوروبية في المنطقة وكذلك تباينهما مع المصالح الإسرائيلية، وتستغلها بما يصب في مصالحها الإقليمية والدولية. وقد نجحت في اللعب على التناقضات الدولية والإقليمية، من خلال ممارسة سياسة العصا أحيانا والجزرة أحيانا أخرى رغم التحديات التي تواجهها، فقد تمكنت من بناء ترسانة عسكرية ضخمة توشك أن تضيف إليها السلاح النووي، وتشكيل ميليشيات ترتبط بها ارتباطا عقائديا لحماية مصالحها وإن تناقضت مع المصالح الوطنية للدول التي تنتمي إليها تلك الميليشيات. فحزب الله والحوثيون والفصائل العراقية يتحركون حسب المصالح الإيرانية حتى وإن تناقضت مع المصالح الوطنية للدول التي ينتمون إليها.
إن التهديدات الحالية للمصالح الأميركية كانت كافية فيما مضى لتشن الولايات المتحدة على ضوئها حربا شرسة ضد أي جهة متورطة في ذلك، غير أن ردود أفعال إدارة بايدن على كل هذه التهديدات لا تتجاوز لغاية الآن مبدأ الضربة مقابل الضربة
ورغم ثيوقراطية هذا النظام إلا أنه تحرك بشكل براغماتي أفضل من أنظمة أخرى كثيرة في الشرق الأوسط، ويمكن استخلاص ذلك بمقارنة التجربة الإيرانية مع التجربة العراقية ثمانينات القرن الماضي. فرغم أن العراق كان حينها منفتحا على كل دول العالم ويتمتع بعلاقات طبيعية مع المجتمع الدولي والغرب، إلا أنه فشل في طموحه للتحول إلى قوة إقليمية وسقط في أول مطب سياسي بحربه مع إيران تلته مطبات سياسية متتالية ذهب ضحيتها في نهاية المطاف عام 2003، بينما نجحت هي في عبور حقول ألغام كثيرة حاول الغرب والولايات المتحدة وضعها في طريق مشروعها الذي ما تزال ماضية فيه وهو التحول إلى فاعل قوي في المنطقة.
هذا الأداء الإيراني قابله أداء يمكن وصفه بالباهت والمشتت من قبل الإدارات المتعاقبة في أوروبا والولايات المتحدة، فرغم أن الغرب قد استعمر الشرق الأوسط لعقود من الزمن ويدرك مزاج شعوبه وتوجهات ساسته ويمتلك دراسات وبحوثا كثيرة حول المتغيرات فيه، ورغم أنه يعتبر عراب تشكيل الكثير من دوله، ويتمتع بعلاقات متميزة مع حكوماته… إلا أن تعامله مع ملفاته يتسم منذ ما يقارب الربع قرن بالكثير من عدم الدراية يصل أحيانا حد السذاجة. ويحاول الكثير من المراقبين “خاصة أصحاب نظرية المؤامرة والمؤمنين بفوقية الغرب” تفسير كل أخطاء سياسة الغرب في منطقتنا بأنها مقصودة وتكتيكية يتبناها لتصب في النهاية لصالحه، إلا أن ما يؤكده مسار الأحداث هو أن الغرب بما فيه الولايات المتحدة يرتكب أخطاء سياسية قاتلة في التعامل مع الملفات السياسية في المنطقة، تفضي بالنتيجة إلى تبعات سلبية ليس على شعوب المنطقة وحدها بل وعلى مصالح الغرب نفسه. وقد يكون مرد ذلك إلى نوعية الساسة الذين يقودون المشهد السياسي في الآونة الأخيرة في أوروبا والولايات المتحدة، وطغيان المصالح الحزبية والشخصية على المصالح الإستراتيجية لدولهم، ليس فيما يتعلق بملفات منطقتنا فحسب بل حتى في ملفات بلدانهم الداخلية.
كشفت حرب غزة وردود أفعال ما يسمى بمحور المقاومة إزائها أن إيران أصبحت تشكل خطرا حقيقيا على مصالح الولايات المتحدة والغرب في المنطقة، وتهديدا وجوديا على حليفتها الاستراتيجية اسرائيل، وأن أذرعها باتت تشكل خطرا على مصالح الدول الحليفة لها في المنطقة. وخروج حماس من حرب غزة دون خسائر، وتهدئة التصعيد بين حزب الله واسرائيل، وإبقاء الحوثيين متحكمين باليمن والفصائل المسلحة العراقية متحكمة بالعراق، كل ذلك سيعتبر نصرا حقيقيا لإيران ينقلها إلى مساحة أخرى تجعلها متحكمة في مسارات السياسة في المنطقة.
تهديد المصالح الأميركية في الشرق الأوسط
قد لا يكون تحول إيران إلى دولة نووية هاجسا عند الولايات المتحدة مثلما يشكل عند اسرائيل وبعض الدول العربية، بدليل أنها في مفاوضات الملف النووي الإيراني قد ركزت فقط على إبطاء أو تأخير وصول طهران إلى القنبلة النووية وليس على منعها من الحصول عليها.
وفي الحقيقة فإن هناك نقطتين في الملف النووي الإيراني علينا ملاحظتهما:
الأولى قد تكون البراغماتية الإيرانية المعروفة والتي مكنتها من إعطاء الولايات المتحدة تطمينات جدية من أن ملفها النووي لن يشكل خطرا على مصالحها ومصالح حليفتها اسرائيل، فالمهم عند إيران هو أن تصبح قوة إقليمية كبرى تحمي نفسها من تحديات دول المنطقة إزاء مشروعها التوسعي فيها.
والثانية ورغم التصريحات الأميركية المتكررة برفضها حصول إيران على السلاح النووي، لكن يبدو أن امتلاك طهران لهذا السلاح لا يشكل هاجسا كبيرا عندها، بل يمكنها توظيف هذا المتغير ليصب في اتجاه مبدأ التوازنات الذي تعتمده في المنطقة، فوجود قوة نووية شيعية في إيران تقابلها قوة نووية سنية في باكستان تستنزفان بعضهما دون أن يتمكن أي طرف من حسم الصراع لصالحه، يصب في صالح السياسات الأميركية، ولذلك فهي لا ترى النووي الإيراني تطورا خطيرا عليها التصدي له مثلما يراه آخرون.
والسؤال هنا…ما هي الخطوط الحمراء الأميركية في المنطقة وهل تجاوزتها إيران؟
يمكن إيجاز الخطوط الحمراء الأميركية في نقطتين؛ الأولى هي الحفاظ على مصالحها في المنطقة، والثانية هي الحفاظ على حلفائها فيها.
إن توضيح الواضحات من الفاضحات كما يقال، فالدلائل كلها تشير إلى أن إيران أصبحت تهديدا حقيقيا لكل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة من خلال:
• دعمها لحماس في غزة.
• دعمها لحزب الله المهيمن على قرار الدولة اللبنانية.
• دعمها للحوثيين الذين يشكلون خطرا على أمن دول الخليج وباتوا اليوم يهددون العالم من خلال تهديدهم للملاحة الدولية.
• دعمها للميليشيات العراقية التي تهدد المصالح الأميركية في العراق وتهدد الدول العربية المحيطة بالعراق.
• وقد تمادت الأذرع الإيرانية في تحديها بعد أن أصبحت تستهدف القواعد الأميركية نفسها سواء في العراق أو سوريا وقتلت جنودا فيها.
إن التهديدات الحالية للمصالح الأميركية كانت كافية فيما مضى لتشن الولايات المتحدة على ضوئها حربا شرسة ضد أي جهة متورطة في ذلك، غير أن ردود أفعال إدارة بايدن على كل هذه التهديدات لا تتجاوز لغاية الآن مبدأ الضربة مقابل الضربة أو التعادل الإيجابي (1-1) “كما يقال في عالم الرياضة”، بل وتشدد على ضرورة إنهاء الحرب في أقصر مدة ممكنة، فبايدن يريد خوض الانتخابات القادمة في جو دولي وداخلي هادئ بعيدا عن ردود أفعال شعبية قد تؤثر على نتائجها.
لكن الولايات المتحدة “وكما قلنا آنفا” هي دولة مؤسسات تهيمن على القرار النهائي فيها بعيدا عن مصالح الأحزاب والأفراد، وهي من تهذب في الكثير من الأحيان شطحات الإدارات الأميركية، خاصة إذا ما استشعرت خطرا حقيقيا على الأمن القومي. وشهدنا ذلك في أكثر من قرار سياسي في عهد الرئيسين أوباما وترامب.. فحتى لو تعاملت الإدارة الأميركية مع تطورات المنطقة بـ”رومانسية” شديدة حسب مصالحها فإن مراكز القرار هي من بيدها القرار الأخير.
فهل التطورات الحالية تهدد مستقبل النفوذ الأميركي في المنطقة؟
مثلما ذكرنا في مناسبات سابقة فإن المنطقة بعد حرب غزة لن تكون كما قبلها… فحتى لو انتهت الحرب بمغادرة حماس غزة “وهو أقصى ما يمكن أن تسفر عنه هذه الحرب”، فإن خروج إيران وأذرعها الباقية منها دون خسائر سيعتبر نصرا حقيقيا لها يحولها من قوة إقليمية “تطمح” للسيطرة على المنطقة إلى قوة إقليمية “حقيقية” تسيطر عليها، وهو ما ستنتج عنه التداعيات التالية:
• سيعطي ذلك انطباعا لدى الدول المهددة من قبل إيران بأن الولايات المتحدة ليست الحليف المناسب لحمايتها من التهديدات المحدقة بها، مما يؤدي بها إلى فك تحالفاتها معها، خاصة بوجود قوى عالمية جديدة كالصين وروسيا تطمح للتواجد في مناطق النفوذ الأميركي الحالية.. وهو ما يمثل تطورا خطيرا بالنسبة إلى واشنطن.
• سيطرة إيرانية كاملة على العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتشكل على ضوئها ما تسمى بـ”دول المقاومة” بعد أن كانت فصائل متفرقة تسمى “محور المقاومة”.
• ستشكل “دول المقاومة” هذه هلالا شيعيا يطوّق دولا مثل الأردن ودول الخليج ويتم تصدير تجربة الميليشيات إليها كما تم تصديرها سابقا إلى العراق ولبنان واليمن.. ولن يقف تأثير الهلال الشيعي عند هذه الدول فقط بل ستصل تأثيراته إلى دول أخرى مثل تركيا ومصر.
• سيطرة كاملة على الملاحة البحرية في المنطقة، وكذلك على مشاريع الطرق البرية المزمع تشكيلها لربط الشرق بأوروبا، مما سيعطي إيران ميزة السيطرة على الاقتصاد العالمي بشكل كامل.
• هناك نقطة جديرة بالملاحظة وهي أن خروج محور المقاومة دون خسائر من حرب غزة سيعطيها دافعا لاستنساخ فكرة تشكيل الميليشيات في دول أخرى تريد التأثير فيها. كل واحدة حسب ظروفها السياسية. وقد تكون أميركا هدفها التالي لنقل تلك التجربة إليها “وإن كان بشكل مغاير لما فعلته في الشرق الأوسط” خاصة وإن الظروف الداخلية فيها قد تساعد على نجاح تلك التجربة، من قبيل رغبة بعض الولايات للانفكاك من الولايات المتحدة، وهي بالطبع مهمة صعبة التنفيذ على إيران لوحدها، لكن بالتنسيق مع الصين وروسيا قد تجعل منها مهمة ممكنة التحقيق، خاصة وأن روسيا تتطلع للرد بالمثل على الولايات المتحدة في تفكيكها للاتحاد السوفيتي سابقا.

استنادا لما سبق نستنتج أن إيران قد تخطت خطوط الولايات المتحدة الحمراء في حيثيات حرب غزة. ويبدو أن مراكز القرار في الولايات المتحدة تعي هذا الخطر وقد اتخذت فكرة المواجهة مع إيران “أو” أذرعها منذ فترة، بعد أن أبدت إسرائيل ودول خليجية لأكثر من مرة رفضها محاولات الإدارات الأميركية استيعاب النظام الإيراني فتوجهت دول الخليج “السعودية والإمارات” إلى المعسكر الشرقي وعقدت اتفاقيات شراكة معه، ودعت الرئيس الصيني إلى حضور مؤتمر القمة الخليجي قبل أكثر من عام، كل ذلك شكل نقطة انقلاب في الموقف الأميركي في تغيير المواقف تجاه إيران… فقد كانت الخطوات الخليجية تلك رسائل مباشرة للولايات المتحدة بأنها ممتعضة من النهج الأميركي المرن حيال الخطر الإيراني، وبأنها تمتلك خيارات أخرى غير أميركية يمكن اللجوء إليها في حال استمرار الولايات المتحدة في نهجها هذا.
عقب المواقف الخليجية هذه تمت زيارات مكوكية لمسؤولين أميركيين إلى الخليج واسرائيل، وشهدت المنطقة خطوات سياسية مركبة بعيدة المدى تمثلت بتوجه سعودي إماراتي نحو تطبيع العلاقات مع إيران والانفتاح عليها، وتهدئة الوضع السياسي في اليمن والعراق “وإن كان التوجه إلى التهدئة في البلدين على حساب الحلفاء المحليين للولايات المتحدة بشكل مؤقت”. هذه التحركات الخليجية حدثت بتنسيق عالٍ مع مراكز القرار الأميركية كان الهدف منها إبعاد دول المنطقة عن أي استهداف حال حدوث مواجهة في المنطقة مع إيران”أو” أذرعها… ونشهد حاليا نتائج هذا التوجه في أن دول الخليج بمنأى عن أي تهديد إيراني أو ميليشياوي رغم اشتعال جبهات كثيرة في المنطقة.
يبدو أن مراكز القرار الأميركي ارتأت أن تكون المواجهة مع محور المقاومة بالانفراد بأذرعه الواحدة تلو الأخرى. ففي الوقت الذي كانت اسرائيل تتوغل في مناطق غزة، سارعت الولايات المتحدة بإرسال بوارجها إلى البحر المتوسط، واستمرت في التأكيد على عدم رغبتها بتوسيع الصراع خارج غزة، وبذلك ضيقت مساحة ردود أفعال حزب الله وأبقتها في نطاق قواعد الاشتباك، وعندما دخل الحوثيون الحرب، تولت الولايات المتحدة مهمة الرد عليهم كي تتفرغ اسرائيل لحربها ضد حماس.
الآن وبعد تحييد قوة حماس إلى حد كبير وتولي التحالف مهمة المواجهة مع الحوثيين فإن السيناريوهات القادمة للحرب تتجه إلى الاحتماليات التالية:
• عقد هدنة مع حماس في غزة بغض النظر عن تفاصيلها.
• يليه قيام الجيش اليمني الشرعي بالدخول في حرب برية ضد الحوثيين تزامنا مع القصف الجوي الأميركي على مواقعهم وتحييد الحوثي بشكل كبير.
• اشتعال الحرب بين اسرائيل وحزب الله على الحدود اللبنانية الاسرائيلية.
إذا أخذنا هذا السيناريو في الاعتبار مع وجود البوارج الأميركية في المنطقة فإن أي قرار إيراني بالدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة سيكون أشبه بالانتحار خاصة بعد تحييد حماس والحوثي، لذلك فإنها ستتخذ خيار الصمت أمام مشهد قص أذرعها لتفقد ميزة قتال أعدائها خارج حدودها وتنكفئ على نفسها داخليا مبقية قرار اتخاذ المواجهة معها إلى الطرف الأخر “الأميركي الاسرائيلي الخليجي”، أما الميليشيات العراقية فهي من أضعف حلقات محور المقاومة في المنطقة ويمكن تشبيهها بضيف شرف على المشهد ينتهي دوره بمجرد أن يسمع المخرج يقول” فركش”.