المحكمة الاتحادية العراقية.. فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

المحكمة العليا ليست كيانا مقدسا أو خطا أحمر، فما هي قدسية محكمة يتم تعيينها والتحكم بها وتسخيرها لتوجهات أحزاب؟
الأحد 2024/03/24
المحكمة الاتحادية كانت دائما في قلب السياسة

منذ تأسيس العراق بحدوده الحالية، والمحاكم العليا تتعاقب عليه في كل نظام حكمه، مؤدية وظيفة تختلف عن وظيفة المحكمة العليا في نظام آخر.

ففي عام 1925 مثلا نصت المادة 81 من دستور المملكة العراقية على ما يلي: “تؤلف محكمة عليا لمحاكمة الوزراء وأعضاء مجلس الأمة المتّهمين بجرائم سياسية تتعلق بوظائفهم العامة ولمحاكمة حكام محكمة التمييز عن الجرائم الناشئة عن وظائفهم والبت في الأمور المتعلقة بتفسير هذا القانون وموافقة القوانين لأحكامه.”

وفي عام 1968 نص الدستور المؤقت للانقلابيين على أن انتخاب أعضاء المحكمة العليا يتم من قبل مجلس الوزراء باقتراح من وزير العدل ويتم تعيينهم بمرسوم جمهوري.

هذه المقدمة ضرورية ليعرف القارئ أن المحكمة العليا ليست كيانا مقدسا أو خطا أحمر مثلما يحاول البعض إضفاء هالة من القدسية عليها، فما هي قدسية محكمة يتم تعيينها والتحكم بها وتسخيرها لتوجهات أحزاب؟

◙ سكوت رئيس المحكمة  عن اتهامات الجبوري وعن ترشيح ابنه لمنصب محافظ  تثير التساؤل حول ارتباطه بأطراف سياسية
سكوت رئيس المحكمة  عن اتهامات الجبوري وعن ترشيح ابنه لمنصب محافظ  تثير التساؤل حول ارتباطه بأطراف سياسية

لقد تشكلت المحكمة الاتحادية العليا الحالية بموجب الأمر رقم 30 لقوات الاحتلال الأميركي عام 2005 وتم نشره في جريدة الوقائع العراقية في عددها 3996 في 17 – 3 – 2005 أي قبل استفتاء الشعب العراقي على الدستور في 15 – 10 – 2005.

ينص الدستور العراقي في المادة 92 الفقرة (ثانيا) على ما يلي: “تتألف المحكمة الاتحادية العليا من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.”

ولغاية يومنا هذا لا يوجد خبراء للفقه الإسلامي في هذه المحكمة وكذلك لم يسنّ أيّ قانون يحدد عدد أعضاء المحكمة أو آلية اختيارهم ولا حتى عدد سنوات خدمة أعضائها، ولا يزال القانون رقم 30 للحاكم الأميركي للعراق بعد الاحتلال بول بريمر هو الأساس في تشكيل المحكمة الاتحادية.

والمفارقة في موضوع هذه المحكمة أن التعديل الوحيد الذي أجري على قانونها كان بعد أن أحيل عدد من أعضائها إلى التقاعد فاضطر البرلمان لرفع أسماء قضاة آخرين للمصادقة عليهم. فأين هي الحالة الدستورية التي تجعل من هذه المحكمة شرعية وقراراتها باتة؟ وإن كانت فعلا دستورية فلماذا وافق أطراف الإطار التنسيقي أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة على سن قانون للمحكمة الاتحادية؟

لقد أوقعت المحكمة الاتحادية نفسها في الكثير من القضايا الشائكة التي تضع علامات استفهام كثيرة حول أدائها ولا نقول نزاهتها، فقد تكون هذه الهفوات ناتجة عن تدخلات وضغوطات يتعرض لها أفراد هذه المحكمة، ومن هذه الهفوات:

◘ أصدرت المحكمة الاتحادية عام 2006 قرارا أكدت فيه أن الهيئات المستقلة تتبع فقط لمجلس النواب. ثم أصدرت عام 2011 قرارا نفت فيه قرارها السابق وأكدت أن الهيئات المستقلة تتبع فقط السلطة التنفيذية.

◘ أصدرت عام 2007 قرارا رفعت فيه الدستورية عن قانون الانتخابات لسنة 2005 الذي جرت على ضوئه الانتخابات الأولى عام 2005 من خلال تأكيدها على عدم دستورية المادة المتعلقة بآلية حساب المقاعد الخاصة بالمحافظات، ثم جاءت وعارضته مع أحكام المادة 49/أولا من الدستور، موضحة أن هذا الانتهاك الفاضح لا يلغي نتائج الانتخابات لأنها جرت بموجب قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وبذلك انتهكت المحكمة الاتحادية العليا المادة 143 من الدستور الذي ألغى قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية فاعتمدت عليه في التحكيم حول انتخابات جرت بعد إلغائه.

◘ فسّرت الكتلة النيابية الأكبر بالكتلة البرلمانية المشكلة في الجلسة الأولى من الدورة البرلمانية الجديدة وهذا التفسير كان لانتخابات عام 2010 حيث كان هذا التفسير يصبّ في مصلحة تولّي طرف معين رئاسة مجلس الوزراء. ثم فسّرت الكتلة الأكبر عام 2022 تفسيرا مغايرا ليصب مرة أخرى في صالح نفس الطرف لكن بطريقة مغايرة للطريقة الأولى.

◘ أصدرت قرارا عام 2010 أقرت فيها بأن اختصاصها يشمل الاختصاصات الواردة في القانون رقم 30 لعام 2005، ثم عادت وتنازلت عن صلاحية النظر في الطعون الخاصة بالقضاء الإداري في نفس القانون. وبذلك فقد أضافت لنفسها صلاحيات ثم ألغتها.

◙ رغم أن مفاوضات تشكيل الحكومة الحالية كانت تؤكد على وضع قانون للمحكمة الاتحادية يبعدها عن المناكفات السياسية إلا أن "المستفيدين" من الوضع الحالي للمحكمة لم ينفّذوا تعهداتهم بشأن هذا القانون

• أقرّت المحكمة الاتحادية عام 2011 أنه لا يجوز لمجلس النواب سن أو اقتراح أيّ قانون إلا بموافقة السلطة التنفيذية وذلك إرضاء لرئاسة الوزراء في تلك الفترة، ثم عادت في عام 2015 لإعادة صلاحية تقديم البرلمان لمقترحات القوانين.

◘ أصدرت عام 2011 قرارا منعت فيه النواب من طلب التفسيرات الدستورية وحصرتها في رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أو أحد نائبيه أو رئيس مجلس الوزراء، ثم عادت عام 2017 وسمحت بطلب التفسيرات الدستورية من قبل الأمين العام لمجلس الوزراء.

◘ لم تعترض المحكمة الاتحادية على إقالة حيدر العبادي لنواب رئيس الجمهورية استجابة للتظاهرات الشعبية آنذاك، لكنها أعادت عام 2016 نواب رئيس الجمهورية ومن ضمنهم المالكي (المقال سابقا) إلى المنصب في تحدّ واضح لمطالب المتظاهرين قبلها.

• تفسيرها للمناطق المتنازع عليها. فقد أصدرت عام 2013 قرارا بأنها غير مختصة بإعطاء الرأي في موضوع المناطق المتنازع عليها. ثم رجعت عام 2017 فعرّفت المناطق المتنازع عليها بأنها الأراضي التي كانت تدار من قبل حكومة إقليم كردستان بتاريخ 19 – 3 – 2003 ثم عادت بعد ذلك بأشهر ونسفت تعريفها الأول بتعريف آخر وهو “أن المناطق المتنازع عليها هي التي لم تكن تدار من قبل حكومة إقليم كردستان في 19 – 3 – 2003”.

◘ رفضت ترشيح مرشح الديمقراطي الكردستاني عام 2021 ليصب في صالح أطراف أخرى.

◘ عملت مرة أخرى لصالح طرف معين حينما طالب التيار الصدري وبعض المستقلين المحكمة بحل البرلمان عام 2022 مبررة ذلك بـ”عدم الاختصاص” وعلى ذلك استمر البرلمان العراقي بالعمل رغم تجاوز المدة الدستورية لعمله. في حين أنها ألغت شرعية برلمان إقليم كردستان بحجة انتهاء المدة الدستورية له.

◘ تفسيرها لنصاب انتخاب رئاسة الجمهورية من خلال ثلثي عدد أعضاء البرلمان.

◘ إصدارها قرارا ضد قانون النفط وإلغاز في إقليم كردستان في فبراير عام 2022 في توقيت كان فيه الديمقراطي الكردستاني يجري مباحثات تشكيل الحكومة مع التيار الصدري ومحمد الحلبوسي وبذلك خلط الأوراق لصالح الطرف المنافس.

◘ إصدار قرارات الحكومة الاتحادية بإرسال سلف مالية إلى إقليم كردستان تكملة لمبالغ رواتب موظفي الإقليم. ومن الواضح الأغراض السياسية الكامنة وراء هذا القرار.

◙ اختيار هادي العامري لمنصب محافظ ديالى يشير أيضا إلى العلاقات المتميزة بين رئيس المحكمة وبين هذه الأطراف السياسية
اختيار هادي العامري لمنصب محافظ ديالى يشير أيضا إلى العلاقات المتميزة بين رئيس المحكمة وبين هذه الأطراف السياسية

◘ ما ذكره مشعان الجبوري في آخر لقاء تلفزيوني يعتبر تصريحا خطيرا يفترض إجراء تحقيق دقيق حوله، حيث قال إن رئيس المحكمة العليا الحالي جاسم العميري هدده بضرورة خروجه من التحالف الثلاثي الذي كان ينافس الإطار التنسيقي على تشكيل الحكومة في الانتخابات الأخيرة.

إن سكوت رئيس المحكمة الاتحادية عن هذا التصريح يؤكد صحة ما ذهب إليه الجبوري. فالسكوت هذا لا يمكن أن يفسر بأنه ترفع عن سفاسف الأمور، لأن الموضوع ليس شخصيا كي يكون رئيس المحكمة الاتحادية حرا في التنازل عن حقه بمقاضاة الجبوري وإنما هو اتهام لدور شخصية معنوية تترأس مؤسسة يفترض أنها مستقلة وبعيدة عن التجاذبات السياسية، وهو ملزم بالدفاع عن الشخصية المعنوية وإظهار الحقيقة للشارع العراقي.

◘ في الدول المحترمة هناك شروط يجب أن تتوفر في رؤساء الهيئات المستقلة من بينها ألا يكونوا منتمين لأيّ حزب وليست لديهم ميول سياسية، وأن يكونوا قليلي الظهور في المناسبات العامة والمناسبات الاجتماعية وأن يتجنبوا الدخول في المزايدات السياسية… لكن ما لاحظناه في رئيس المحكمة الاتحادية الحالي أنه حاضر في المناسبات الاجتماعية، آخرها حضوره مراسيم وفاة والدته وكان في استقبال وتوديع المعزّين، ومرة أخرى ظهرت ميوله السياسية من خلال الحفاوة التي كان يخص بها برلمانيي طرف سياسي معين مقارنة بالمنتمين للأطراف الأخرى، مما يضع تساؤلات كثيرة حول نجاح العميري في الحفاظ على مسافات متساوية مع جميع الفرقاء.

◘ إن اختيار هادي العامري، زعيم منظمة بدر، ابن رئيس المحكمة الاتحادية لمنصب محافظ ديالى يشير أيضا إلى العلاقات المتميزة بين رئيس المحكمة وبين هذه الأطراف السياسية، رغم عدم أهلية المرشح للشروط القانونية المفترض تواجدها في المرشحين وخاصة في ما يتعلق بشرط العمر.

والغريب أن هادي العامري نشر في رسالة له موافقة رئيس المحكمة الاتحادية على تولي ابنه هذا المنصب مما يعتبر خرقا خطيرا للقانون والأعراف. ولولا الضجة التي أثارها الرأي العام على هذا الترشيح لتم تمرير الموضوع وأصبح ابن رئيس المحكمة الاتحادية محافظا.

استنادا على النقاط أعلاه يتضح لنا أن أداء المحكمة الاتحادية وكل قراراتها تصبّ في صالح طرف واحد من الأطراف في العراق على حساب بقية الأطراف، والطرف السياسي “المستفيد” هذا حريص جدا على إبقاء وضع المحكمة الاتحادية على ما هو عليه حاليا ليسهل له تمرير ما يراه مناسبا لمصالحه “وكله بالقانون”.

ورغم أن مفاوضات تشكيل الحكومة الحالية كانت تؤكد على وضع قانون للمحكمة الاتحادية يبعدها عن المناكفات السياسية إلا أن “المستفيدين” من الوضع الحالي للمحكمة الاتحادية لم ينفّذوا إلى غاية اليوم تعهداتهم بشأن هذا القانون مما يفقد المحكمة ما تبقى لها من شرعية ودستورية.

6