الاستثمار السياسي يعيق سعي تونس إلى معالجة الأزمات

تونس تحتاج الآن إلى التهدئة، وليس إلى من يصب الزيت على النار. يمكن لأي جهة أن تدعو الناس إلى التظاهر والاحتجاج على ندرة المواد الأساسية الغذائية والمحروقات، ويمكنها أن تنجح في ذلك وتحرك الشارع، لكنها لن تحل المشكلة وهي ستزيد الأوضاع سوءا وتجعل الناس على قلق شديد.
صحيح أن هناك من يستثمر الغضب الشعبي لحسابه الخاص، ويريد أن يقول للناس إن قيس سعيد الذي انتخبتموه بنسب عالية ليس نبيا ولا يحمل أي بدائل وإنه يبيع لكم الوعود ويطلق الشعارات، وها هو عاجز عن فعل أي شيء لإنقاذ البلاد.
قد يكون قيس سعيد كذلك، لكن الذين سبقوه لم يفعلوا شيئا بل تسببوا بشكل واضح في ما وصلت إليه تونس من أزمة.
الذين دعوا إلى مظاهرة السبت تحت شعار الاحتفاء بعيد الجلاء (خروج آخر جندي فرنسي في تونس 1963) لجلاء حكم قيس سعيد هم أنفسهم الذين أجلاهم الناس عن السلطة بالانتخابات وتظاهروا ضدهم في الشوارع بسبب فشلهم في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتركيز جهودهم على اللعبة السياسية وتقاسم المواقع والصراعات التي لا تتوقف حول التفاصيل وترك الاقتصاد يتهاوى لعشر سنوات كاملة.
رغم اقتراب الاتحاد من الحكومة ووقوفه على تفاصيل الأزمة وحقيقة الصعوبات في المالية العمومية، إلا أنه استمر مثله مثل الأحزاب في النفخ والتصعيد لأن الهدف ليس المساعدة على الخروج من الأزمة، ولكن تحصيل المكاسب القطاعية بقطع النظر عن مآلات البلاد
الذين يهاجمون حكومة قيس سعيد بأنها ستبيع تونس لصندوق النقد الدولي، هم أنفسهم تفاوضوا مع الصندوق وسعوا لتنفيذ إصلاحاته بلا قيد ولا شرط بما فيها الاستعداد للتخلي عن الدعم، والتفويت في المؤسسات الحكومية، ووفق نفس الخطة التي يجري الآن التفاوض بشأنها.
ما يهم الآن أن المزيد من الاحتجاجات والإشاعات لن يوفر المواد المفقودة ولن يهدئ الأسعار الملتهبة، وإنما سيخلق مناخا من الخوف، ومن نتائجه زيادة أعداد الذين يغامرون بالخروج من البلاد في رحلات سرية وعلنية هي أقرب إلى الانتحار الجماعي مثلما حدث في مدينة جرجيس (جنوب شرق)، حيث يكابد الأهالي للبحث عن جثامين أبنائهم في قاع البحر.
الاستثمار السياسي في الأزمات، المستمر منذ 2011 وإلى الآن، هو الذي وضع الأرضية الملائمة لما يجري حاليا من هروب جماعي نحو البحر في هجرة شبيهة بما يحدث في الدول التي تعيش على وقع الحروب.
ليس صعبا أن تحرك الأحزاب الناس وتدفعهم إلى التظاهر في الشوارع، فهذه وسيلتهم الوحيدة للفت الأنظار إلى أوضاعهم الصعبة، لكن الصعب هو أن تقدم للناس ولو النزر القليل من الوعود التي أطلقتها.
في 2011 تظاهر الناس على نطاق واسع وكانوا يعتقدون أنهم عملوا ثورة ستغير حياتهم جذريا، وأن المشكلة كانت في منظومة بن علي وأصهاره. بعد عشر سنوات من ذلك لم يتغير شيء وعلى العكس فقد ازداد الوضع الاقتصادي والاجتماعي سوءا مع فائض من الحرية يجعل الناس لا يرضون بالقليل ويطالبون الدولة بما لا تقدر عليه.
والنتيجة أن الطبقة السياسية التي حكمت منذ 2011 وجدت أن الحل الأسهل هو شراء السلم الاجتماعي من خلال إغراق الدولة بآلاف الوظائف وأغلبها وهمية ولا تحتاجها المؤسسات. المهم الوصول إلى حل ظرفي يجعل الناس يتوقفون عن الاحتجاج ويرضي النقابات وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل التي كانت تدفع دائما نحو التصعيد.
الاتحاد يواصل الآن في نفس هذا المسار بالرغم من أنه يعرف أن البلاد في حاجة إلى أن تقف الخلافات ولو لأشهر قليلة حتى تقدر الحكومة على فهم ما لها وما عليها خاصة أن تونس لديها سلسلة من القروض التي حان وقت خلاصها، ولديها أزمات مزمنة في الإدارة وميزانية محدودة.
ورغم اقتراب الاتحاد من الحكومة ووقوفه على تفاصيل الأزمة وحقيقة الصعوبات في المالية العمومية، إلا أنه استمر مثله مثل الأحزاب في النفخ والتصعيد لأن الهدف ليس المساعدة على الخروج من الأزمة، ولكن تحصيل المكاسب القطاعية بقطع النظر عن مآلات البلاد.
الحكومة والاتحاد توصلا إلى اتفاق زيادة في الأجور على أساس أرضية لهدنة تستمر لثلاث سنوات، لكن أمنيه العام نورالدين الطبوبي قال إن الاتفاق معزول ولا علاقة له بترتيبات الاتفاق مع صندوق النقد.
في أزمة الوقود الحالية، ضاعف اتحاد الشغل من الأزمة من خلال تصريحات رئيس الجامعة النقابية للنفط والمواد الكيميائية التابعة للمنظمة سلوان السميري الذي قال إن نقص البنزين في محطات الوقود في تونس يعود أساسا إلى تراجع المخزون الإستراتيجي من المحروقات في البلاد من شهرين إلى حدود أسبوع فقط.
وأضاف السميري الاثنين الماضي أن ناقلة البنزين التي يتم تفريغها الآن في بنزرت ستمنح تونس إمدادات تكفي لما بين 10 أيام وأسبوعين، وأن نقص إمدادات الوقود قد يتجدد “إذا لم تجد الدولة سيولة كافية لدفع ثمن الشحنات القادمة”.
وضاعفت تصريحات السميري من حالة الخوف واللهفة لدى أصحاب العربات، ما جعل متابعين للشأن التونسي يتساءلون هل أن الاتحاد سيتحول من قوة معرقلة لخطط الحكومة إلى منظمة زرع للشك والتخويف والتدخل في الشأن الحكومي بلا مسؤولية، مضيفين “بأي بند في الأنظمة الداخلية للنقابات التونسية يسمح لمسؤول بتسريب معلومات حكومية بما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار؟”.
وتساءل المتابعون “كيف لعضو نقابي مسؤول أن يعلن عن ‘توقعاته’ عن حجم المخزون الإستراتيجي للوقود في تونس وأن الأمر وصل إلى الحافة مما دفع الناس إلى التدفق على محطات الوقود فيزيدون من الارتباك ويزيدون من الأزمة؟”.
وبالنتيجة، فإن تونس تحتاج إلى القليل من المسؤولية لدى مختلف مكوناتها السياسية والنقابية، المعارضة والحاكمة، من أجل التوصل إلى مناخ مساعد يسمح بإدارة الأزمة الاقتصادية والمالية التي ستحدد وضع تونس في المستقبل، فهي إما ستعيدها إلى وضعها الطبيعي أو ستنقلها إلى وضع الدولة الفاشلة.