الاتحاد المغاربي في زمن الحواجز الغليظة

الخميس 2016/02/25

في بحر هذا الأسبوع ساد التفاؤل لدى مواطني ومواطنات البلدين الشقيقين، المغرب والجزائر، بعد تصريحات لقيادتي القطرين والتي تتضمن الدعوة إلى التقارب من جهة، وإلى تحريك عجلة الاتحاد المغاربي قصد الانطلاق في نفخ الحياة في مؤسساته المعطلة من جهة أخرى. لا شك أن مثل هذه التصريحات الإيجابية تنعش النفوس وتعيد الأمل إلى القلوب، ولكن هل ستترجم هذه التصريحات إلى قفزة نوعية تتجسد أولا في فتح الحدود المغلقة بين الجزائر والمغرب كخطوة ممهدة لحوار أخوي بين البلدين لحل المشكلات العالقة بينهما منذ سنين؟ وهل يسمح بعض صقور النظام الجزائري، والوضع الإقليمي المتوتر بهذا؟ ثم هل سيسمح الغرب بأي تقارب حقيقي بين الجزائر والمغرب باعتبارهما ركنين مهمين في المعادلة السياسية في منطقة البحر الأبيض المتوسط الذي يصل شمال أفريقيا وعمقه الأفريقي بأوروبا الشمالية؟

في الحقيقة فإن الزميل الكاتب والإعلامي الجزائري خالد عمر بن ققه قد أبرز بحصافة في مقاله "اتحاد المغرب العربي.. الثوابت والمتغيرات" المنشور على صفحات هذه الجريدة الأربعاء الماضي العراقيل الثلاث التي تحول دون حسم قضية تفعيل الاتحاد المغاربي مثل "تراجع الدولة القطرية"، و"وفاة القادة المؤسسين أو بعض الموقعين على معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير 1989"، فضلا عن عامل خارجي وهو "أن الاتحاد المغاربي جزء من المنظومة العربية، وهذه الأخيرة تواجه تراجعا في العلاقات البينية، نتيجة الأوضاع الداخلية في كل دولة عربية، وأيضا نتيجة المشكلات والضغوط التي فرضها الواقع الدولي".

لا شك أن هذه الحواجز الثلاثة تمثل عقبة كبرى أمام الأمن المغاربي بشكل خاص، وأمام الانفراج السياسي في المنطقة المغاربية والذي لا يمكن أن تقوم قائمة للاتحاد المغاربي دون تحققه. وهنا أريد أن أساهم بالإشارة إلى عائق مفصلي آخر لعب ولا يزال يلعب الدور المحوري في تجميد الاتحاد المغاربي وفي إدخاله غرفة الإنعاش منذ ولادته.

لا بد من القول إن العقبة الأساسية تتمثل في مشكلة الصحراء التي تتكسر عليها آمال توحيد المنطقة المغاربية، حيث أنه لن يتم إنجاز حلم أبناء هذه المنطقة في بناء دولة مغاربية شمال أفريقية كبرى ديمقراطية قائمة على كتلة التنوعات الثقافية واللغوية، وتكون قطبا فاعلا إقليميا ولاعبا دوليا مؤثرا، ما لم تجد هذه المشكلة الحل الطبيعي الذي يغلب الوحدة على إنشاء الدويلات المجهرية التي ستصبح لقمة سائغة بين فكي الدول الغربية التي تتربص بفسيفساء بلداننا المغاربية.

وهنا أتساءل: لماذا هذا الإصرار على التشتيت في الوقت الذي تطور أوروبا وحدتها عملة واقتصادا وموقفا سياسيا تجاه العالم، وصارت بذلك قطبا قاريا بكل تنوع ثقافاته ولغاته وأعراقه ومذاهبه الدينية، وفي الوقت الذي يسخر التكتل الغربي جهوده لتطوير حلف الأطلسي كقوة رادعة تحمي الشعوب الغربية ومصالحها الحيوية؟ لماذا نسير نحن عكس تاريخنا وشخصيتنا الحضارية المشتركين، وعكس تيار النهوض الوحدوي الأوروبي الغربي؟

إن هذا الوضع الذي نحن عليه يجعلني أستعيد دائما النقاش الساخن الذي أثاره المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوطار في كتابه الشهير “الشرط ما بعد الحداثي” الذي بشر فيه بسقوط السرديات الكبرى للحداثة الأوروبية وفي مقدمتها الدولة – الأمة التي تعد إحدى ثمراتها الأساسية، علما أن هذا الكتاب قد كتب ونشر في مناخ الإعداد للانتقال من طور السوق الأوروبية المشتركة إلى مرحلة الاتحاد الأوروبي.

في ذلك الوقت فهم الناس ما قاله ليوطار بخصوص الدولة – الأمة بأشكال مختلفة، إذ هناك من فهم أنه يقصد أن المستقبل هو عصر الكيانات الصغرى، أو ما يسمى بالدولة الإثنية، أو بالدولة – الطائفة، أو بالدولة – العرق. وثمة من أدرك بحصافة أن ليوطار كان يلمح إلى أن الدولة – الأمة التقليدية في صيغتها الأوروبية مآلها الزوال، خاصة وأنها لم تقدم للشعوب الأوروبية سوى حربين عالميتين تناحرت فيهما دولة الرايخ الألمانية وحلفاؤها مع الدول الأخرى المضادة لها ونتج عنهما الدمار المادي والبؤس الروحي والتفكك الأخلاقي. وهناك فريق آخر فهم أن القرن الحادي والعشرين سيشهد انهيار الدول الضخمة وخاصة تلك التي تتعدد فيها الأعراق والإثنيات وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، ولكن لا شيء منها قد تحقق حتى يومنا هذا.

الطريف أن نظرية ليوطار الخاصة بالدولة – الأمة لم تنطبق حتى الآن إلا على الدول العربية التي بدأت تتفكك تدريجيا إلى ملل ونحل ماعدا مجلس التعاون الخليجي الذي لا تزال الدول المكونة له تتمسك به كهيكل تنظيمي حتى يومنا هذا.

في هذا السياق المتشائم يبدو أن المنطقة المغاربية قد أصبحت تعارض تاريخها الذهبي الذي تميز عبر التاريخ القديم بوحدة الجغرافيا والمعالم الحضارية والركائز الثقافية المشكلة للشخصية القاعدية لمواطنيها ومواطناتها. في ذلك الوقت كان ابن بطوطة يتغدى في وجدة ويتعشى بعد أسبوع في بجاية، ثم يقيم عرس زواجه في القيروان بتونس بعد شهر أو أقل، ولم يكن في جيب هذا المواطن المغاربي جواز سفر ليقدمه لشرطة الحدود التي لم يكن لها وجود آنذاك. وهكذا استيقظنا بعد قرون ووجدنا أنفسنا قد أصبحنا رهائن للحدود الفولاذية التي تفصل بين أبناء الدم الواحد.

أذكر أنني التقيت في فترة التسعينات بالأخ التونسي محمد عمامو الذي كان في ذلك الوقت أمينا عاما للاتحاد المغاربي ودار بيننا حوار حول واقع ومستقبل هذا الاتحاد، ومن ثم قادني ذلك اللقاء إلى الابتهاج بالبنود التي تأسس عليها الاتحاد، أوردها هنا وهي “تمتين أواصر الأخوة التي تربط الدول الأعضاء وشعوبها بعضها ببعض، وتحقيق تقدم رفاهية مجتمعاتها والدفاع عن حقوقها، والمساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، ونهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين، والعمل تدريجيا على تحقيق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال فيما بينها. وتهدف السياسة المشتركة المشار إليها أعلاه إلى تحقيق الأغراض التالية:

في الميدان الدولي: تحقيق الوفاق بين الدول الأعضاء وإقامة تعاون دبلوماسي وثيق بينها يقوم على أساس الحوار. في ميدان الدفاع: صيانة استقلال كل دولة من الدول الأعضاء، أي اعتداء على دولة من الدول الأعضاء يعتبر اعتداء على كل أعضاء الاتحاد.

في الميدان الاقتصادي: تحقيق التنمية الصناعية والزراعية والتجارية والاجتماعية للدول الأعضاء واتخاذ ما يلزم اتخاذه من وسائل لهذه الغاية، خصوصا بإنشاء مشروعات مشتركة وإعداد برامج عامة ونوعية في هذا الصدد.

في الميدان الثقافي: إقامة تعاون يرمي إلى تنمية التعليم على كافة مستوياته وإلى الحفاظ على القيم الروحية والخلقية المستمدة من تعاليم الإسلام السمحاء وصيانة الهوية القومية العربية واتخاذ ما يلزم اتخاذه من وسائل لبلوغ هذه الأهداف، خصوصا بتبادل الأساتذة والطلبة وإنشاء مؤسسات جامعية وثقافية ومؤسسات متخصصة في البحث تكون مشتركة بين الدول الأعضاء”.

بعد عشرين سنة كاملة لم يتحقق أي بند من هذه البنود، بل إن ما أنجز هو المزيد من التشرذم وتسميم الأجيال الصاعدة بصدأ الحدود.

كاتب جزائري

9