الإنسان بين الإيجابية والسلبية

الفرق بين الإنسان الإيجابي والإنسان السلبي لا يكمن فقط في ما يرى هذا ويرى ذاك، بل يظهر في مفردات حياتية أخرى.
السبت 2019/02/16
علم النفس يوسع مساحة الحواس التي لا تتسم بالموضوعية

بات من المعروف أن ذاكرة الإنسان ليست حيادية، بمعنى أنها لا تنقل ما كان وما حدث نقلاً موضوعياً، بل تتدخل في مجرى الأحداث فتضيف ما تضيف وتُسقِطُ ما تُسقط. غير أن علم النفس يوسع مساحة الحواس التي لا تتسم بالموضوعية، فيقول بعض علماء النفس: إن النظر، عبر ما تنقله العين إلى الدماغ، ربما اختلف بين شخص وآخر، ويكون هذا الاختلاف في إطار الشخصية الإيجابية، حين ترى شيئاً ما، مشهداً أو شخصاً أو صورةً، فإنها ترى الجمال في ما ترى، بينما ترى الشخصية السلبية، نواقصه وما تراه فيه قبيحاً وقد يكون الشعر العربي سبق علم النفس في ما ذهب إليه، حين قال الإمام الشافعي:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

حدثني مسؤول عربي فقال: شغلت إحدى المسؤوليات الرسمية، زمناً غير قصير، وكما هي العادة في المكاتب الرسمية، حيث تعلق صورة المسؤول الأول والثاني في الدولة، وهكذا كان مكتبي، ورغم طول المدة كنت أرى الصورتين يومياً من دون أن ألاحظ خللاً، وكنت أعرف أن الصورتين التقطتا بعدسة مصور واحد وطبعتا في معمل واحد.

ثم أكمل حديثه قائلاً: استقبلت في أحد الأيام صحافياً أوروبياً، أعرف ميوله المعادية للعرب، وفي الوقت الذي صافحته فيه، حتى قبل أن يجلس، نظر إلى الصورتين المعلقتين في المكتب وقال لي: أظن أنك تفضل المسؤول الثاني على المسؤول الأول، ومن دون أن ينتظر إجابتي، واصل القول: ألا تلاحظ أن المسؤول الثاني يظهر كاملاً داخل الإطار، بينما يحجب الإطار جزءًا من كتف المسؤول الأول؟!

وبقدر ما فاجأتني الملاحظة، فقد أزعجتني، لكنني أجبته بهدوء، يقول شاعر عربي معاصر: كن جميلاً ترى الوجود جميلا

فأجابني: لم أفهم قصدك.

فقلت له: ليس الخلل في الصورة، وإنما في النظر إليها، ولا بد أنك تعلم بأن علم النفس يذهب إلى أن عيون إنسان غير محب تنتقص ما هو كامل وتبشع ما هو جميل، بينما عيون المحب تكمل ما هو ناقص وترى الجمال في ما تنظر إليه.

وهنا يمكننا أن نقول: إن الفرق بين الإنسان الإيجابي والإنسان السلبي لا يكمن فقط في ما يرى هذا ويرى ذاك، بل يظهر في مفردات حياتية أخرى، فالإنسان السلبي يميل مثلاً إلى الأخبار السيئة ويتبناها من دون تمحيص، أما الإنسان الإيجابي، فيحاول ألا يصدقها، ويعلل النفس في تكذيبها، وهنا يمكن أن نتذكر موقف المتنبي حين جاءه خبر وفاة خولة، أخت سيف الدولة الحمداني، وهو في الكوفة، فلم يجد وسيلة للتعبير عن حبه لسيف الدولة وأسرته ولخولة على وجه خاص، سوى اللجوء إلى تكذيب الخبر حيث قال:

طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ         فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ

كما يظهر الاختلاف بين القطبين السلبي والإيجابي في مواقف الناس بمفردات حياتية أخرى، في الحاجة والأمل والعسر والمرض وغيرها، ومما يروى على هذا الصعيد، أن قرحة خرجت في يد العارف بالله محمد بن واسع، فصار الذين حوله يقولون له: إنا نشفق عليك ونرحمك، فأجابهم: وأنا أشكر الله تعالى، أنها لم تخرج في عيني.

إن الشخصية الإيجابية قوية ومستقرة ومتفائلة وهي أقرب إلى السعادة من نقيضتها، الشخصية السلبية، التي تتميز بالضعف والتطير والهلع، والميل إلى تعذيب النفس، فحين يستمع أحدهم إلى خبر مفرح يتجاوزه ولا يتوقف عنده ولا يتفاعل معه، أما إذا جاءه خبر محزن، تراه في حالة قصوى من الاستجابة له، فيتحدث عنه وينشره على أوسع نطاق.

14