الإنترنت تصل إلى مفترق طرق خطير

نواصل، في فضائنا العربي، استهلاك الإنترنت كما نستهلك مختلف البضائع المستوردة من الغرب، نستفيد مما توفره من مزايا، ولكننا نغض الطرف في الغالب عن جوانبها الخطرة، التي ينهض الغرب نفسه للتحذير منها، والنظر في سبل فرض قوانين خاصة تنظمها، بعد أن صارت بأيدي شركات عملاقة لا غاية لها سوى الربح والسيطرة على الأسواق العالمية، وحتى على العالم، توجهه وفق أهوائها.
ليست الهجرة وصعود الشعبوية والأزمات الاقتصادية والصحية وحدها ما يشغل الأنظمة الغربية، فمن مشاغلها أيضا الإنترنت خصوصا بعد أن برزت في الأعوام الأخيرة رهانات عديدة في الفضاء الرقمي، لعل أهمها ترويج الأخبار الزائفة، وحشد جماهير جديدة، وبروز سلطات رقابة وتعديل خاصة، إضافة إلى زعزعة الأطر القانونية التقليدية.
وقد وجدت الدول نفسها مدعوة إلى وضع قواعد جديدة للحفاظ على إمكانية فضاء عام رقميّ، وحمايته من الانحرافات التي تشوبه، من عنف التبادل وتغذية الكراهية والعنصرية إلى التلاعب بالأخبار والتشكيك في الحقائق العلمية، إلى جانب فرض رقابة على عمالقة الويب الذين حازوا لأنفسهم سلطة رقابة خاصة فاقت رقابة الدول، وجعلوها في خدمة استراتيجية تحويل تبادل المستخدمين إلى سلعة.
في خدمة الأقوياء
من الصعب تحديد تصور واضح لمفهوم الفضاء العام الرقمي سواء في وضعه الراهن أم في وضعه المنشود
لم تمثل الإنترنت عند أول ظهورها ثورة تكنولوجية فحسب، وإنما أيضا ثورة ديمقراطية تسمح لجميع الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم بممارسة حقهم في التواصل والتعبير، وتوفر لهم فضاء مفتوحا يتحاورون فيه على قدم المواساة، ولكنها صارت اليوم تتهم بكونها أداة لخدمة مصالح الأقوياء، ووسيلة لبروباغندا السلط العامة والخاصة، بل إن بعض المحللين يرون في تعدد المشاكل التي أوجدتها نذيرا بقتل الديمقراطية.
والنقد الذي يوجّه إليها اليوم لا يخص الشبكة في حدّ ذاتها، لكونها لا تزال محافظة على مبادئها المؤسِّسة من حيث الحياد واللامركزية، وإنما يخص تنظيم المنتديات التي تستقبل التفاعلات على الشبكة وتوجهها. غير
أن ذلك التنظيم الذي يشهد تطورا مستمرّا منذ ابتكار الإنترنت لم يعد طبيعيا ولا ضروريا في نظر أهل الاختصاص، لأن شكله الحالي صارت تمليه منصات المواقع الاجتماعية الكبرى، التي تستحوذ على جانب هامّ جدّا من مجمل الاستخدامات.
ولما كانت تلك المنصات على ملك شركات عابرة للقارات يقوم نموذجها الاقتصادي على المركزية والاتجار بمعطيات المستخدمين، فقد صار لها اليوم نفوذ ضخم، يفوق نفوذ الدول، وسواء اعترفت بذلك أم أنكرت فإنها هي التي تنظم الجدل على الشبكة، بعد أن تخلت الحكومات الديمقراطية عن ذلك الدور.
هذا التخلي وما انجرّ عنه هما اليوم محل انتقاد شديد، حتى أن الإنترنت باتت تحتل جدول أعمال الديمقراطيات الأوروبية خصوصا بعد أن أصبح المجال الرقمي رهانا اقتصاديا وجيوسياسيا بالغ الأهمية على المستوى العالمي.
ولئن واجهت روسيا والصين القوة الصناعية الأميركية ونموذج رأسمال المراقبة الذي تتوخاه شركات غافام (غوغل، أمازون، فيسبوك، أبل، مايكروسوفت) عن طريق شبكة إنترنت مغلقة جُعلت لمراقبة مواطنيهما، فإنهما لم تترددا في القيام بعمليات تأثير واسعة، بهدف السيطرة على فضاءات الجدل على الشبكة، التي تستضيفها المنصات الكبرى، وجعلها في خدمة مصالحهما الدبلوماسية فضلا عن دورها في تشويه سمعة الخصوم والطعن في سياساتهم.
أما الاتحاد الأوروبي فهو لا يزال يبحث عن طريق ثالثة، دون أن يملك تماما وسائل تحقيق مراميه؛ لأن المشاريع التي يسعى إليها أعضاؤه، مثل قانون مكافحة التلاعب بالمعلومات في فرنسا وقانون الشبكة الرقمية NetzDG في ألمانيا وقانون الخدمات الرقمية الذي أقره الاتحاد الأوروبي بصفة شاملة، قد تشكل خطرا -حسب منظمات المجتمع المدني- على الديمقراطيات الغربية نفسها، لكونها قد تحدّ من حرية التعبير على الشبكة التي تكفلها قوانينه دون أن تضمن جدلا يسوده الانفتاح والمساواة. لاسيما أن من الصعب تحديد تصور واضح لمفهوم الفضاء العام الرقمي، سواء في وضعه الراهن أم في وضعه المنشود، ذلك الذي تتمثله أطر التعديل الجديدة، ولو أنه مصوغ بصفة رجعية، أي لمواجهة المشكلات الراهنة أولا، كنشر خطاب الكراهية والعنصرية والدعوة إلى العنف، فضلا عن الأخبار الزائفة.
تنظيم الإنترنت

ولما كان الموضوع لا يخص الحكومات وحدها، بل يهم المجتمعات في راهنها ومستقبلها، لكونه قد يشكل خطرا على الديمقراطية، فإن وسائل الإعلام والمنتديات والمجلات الفكرية لم تتردد في طرحه للنقاش، والاستعانة بخبراء الاتصال والفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع وأساتذة الحقوق، لمعرفة آرائهم.
من ذلك مثلا مجلة “إسبري” (فكر) الفرنسية التي خصصت في عددها الأخير ملفا حول الإنترنت ودورها في الفضاء العام بمساهمة الوكالة الوطنية للبحث “إيغاليبيكس” ومخبر تأسيس الحداثة “لابيكس كومود” في جامعة ليون، في إطار مشروع “استثمارات مستقبلية”، للتفكير في غايات ووسائل تنظيم الإنترنت ومعرفة أي شكل من التواصل الرقمي تستوجبه السياسة الديمقراطية.
ومن بين الأسئلة المطروحة مثلا: كيف السبيل لجعل النقاش في الشبكة يأخذ شكل تبادل مفتوح ومتساو كشرط لممارسة العقلانية النقدية، على المستوى الفردي أو الجماعي؟ ما هي الحدود التي يمكن فرضها على خطاب مستخدمي الشبكة للحفاظ على سلامة الجدل، دون الإساءة إلى حريتهم في التعبير؟ ما هي سلطات تعديل الخطاب التي يمكن أن تترك للفاعلين الخواص، ولاسيما المنصات، وكيف يمكن تأطيرها؟ ما هي التبعات السياسية لتعديل يفرضه الحكام بقوة القانون، أي مرورا بالسلطة التشريعية؟ وما هو المعنى المخصوص الذي تتخذه الشروط الديمقراطية للمساواة بين المشاركين وإشهار التبادل وحرية التعبير إذا جرت حرب الآراء على الشبكة؟
ذلك أن تنظيم الإنترنت لا يمكن أن يتم بمعزل عن إعادة تأوّل المقتضيات المرتبطة بالجدل العام، إذ لا يمكن لذلك الجدل أن يأخذ نفس الشكل داخل الشبكة وخارجها، ولا يكفي أن ننقل أصناف التحليل وأطر التعديل التي صيغت لأشكال أخرى من التواصل إلى التكنولوجيات الرقمية. بل إن الوجه الجديد للفضاء العام يفرض إعادة النظر في الظروف الاجتماعية والمعطيات القانونية التي يمكن أن تحافظ عليه.