الإلحاد الوسطي والتديّن الوسطي ذهبا مع الريح، كل في طريق

لا خوف على الإسلام، وعلى أيّ دين سماوي أو أرضي، من الإلحاد. حتى الإلحاد الانفعالي غير الوسطي، الذي يتبناه مراهقون يستهدفون الأديان بغباء، أتفه من أن يمس جوهر الدين أو يؤذي المؤمنين.
الثلاثاء 2019/12/10
الإيمان الحق محله القلب

لا يُعلن عن الميزانية المرصودة في مصر لمكافحة الإلحاد. ويرتبط الإلحاح على هذه القضية باستنفار دعوِيّ مدعوم بأموال تكفي لرفع الكفاءة الصحية السيئة لمستشفيات حكومية لو خرج منها المريض الفقير ناجيا من الموت، فلن يتردد في الكفر المقترن بالفقر وانتفاء العدل، ويصبح ملحدا فطريا يفتقد إلى وعي من يلحد بعد مروره بمشقة البحث، واطمئنانه بإلحاد وسطي لا يعادي فيه مؤمنا، بل يستعدّ لحمايته والدفاع عنه.

 الإيمان الحق محله القلب، أما المبالغة في التديّن فهي من مظاهر النفاق الاجتماعي. الإيمان والإلحاد كلاهما ينتهي إلى شيء من راحة القلب والسلام النفسي والتصالح مع العالم، قبل الابتلاء في الآونة الأخيرة بملحدين مراهقين يستمرئون التباهي بالعداء للدين، والاجتراء على الذات الإلهية، والاستهزاء بالأديان والسخرية من معتنقيها. وأظن هؤلاء مشكوكا في إلحادهم، غير مطمئنين ويحاولون إخفاء شكوكهم باستباق الهجوم على المتدينين؛ لتعطيلهم عن دكّ حصون الملحدين غير المؤسسة على قواعد راسخة.

وفي المقابل فإن من يطمئن قلبه بالإيمان لا يخاف على دينه من الافتتان بالملحدين أيّا كانت أعدادهم وأنشطتهم. وفي الملاذات الغربية للمسلمين الهاربين من ديار الإسلام، لم تسجل حالات ردّة بسبب الحريات الشخصية المكفولة للجميع، ومنهم الملحدون والمثليون وعبَدة النار وعبدة اللاشيء، ومن لا يعنيهم أن يكون للكون إله. ولكن ديار الإسلام لا تحتمل حالات فردية من هؤلاء، وتتواطأ السلطتان السياسية والدينية على النفير العام؛ لإشغال الناس عن نيل حقوقهم الإنسانية، بحجة أولوية الدفاع عن الله. وتتواصل الخطب على منابر المساجد والفضائيات ومنصات الإفتاء الإلكترونية التفاعلية بالتحذير من الإلحاد، بخطاب أشبه بإعلان حرب وهمية؛ فالمؤمن المطمئن بالإيمان لا يشغله انتشار الإلحاد. كما يفترض في الملحد الحق ألا تزعجه زيادة أعداد معتنقي هذا الدين أو ذاك.

يبخل التجار برحمة الله، ويكفّرون الضحية، ويصمتون على إدانة السياق السياسي والاجتماعي الفاسد

لكن الوقائع تذهب في اتجاه آخر. في أكتوبر 2014، بعد نشر تقرير عن وصول أعداد الملحدين في مصر إلى مليونيْن، تحمست الحكومة ممثلة في وزيري الأوقاف «الدكتور» محمد مختار جمعة، ووزير الشباب والرياضة «المهندس» خالد عبدالعزيز، لإطلاق حملة قومية بالاستعانة بخبراء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والطب النفسي، لمكافحة ظاهرة انتشار الإلحاد. وحذر الأزهر على لسان شيخه الدكتور أحمد الطيب من انتشار الإلحاد، بالتزامن مع تنظيم مجلس الكنائس المصرية مؤتمرا للشباب لمناقشة الإلحاد، ومطالبة البعض من رجال الدين بتشريع يمنع نشر العلمانية وهي كلمة سيئة السمعة، ويربط الخطاب السلفي بينها وبين الانحلال الأخلاقي، كأن ذكرها يبطل الوضوء والصيام، ويطلق الألسنة السلفية بالتحريض والاحتقار والاستعلاء، زاعمين أنها تعني التعري، ونزع الحجاب، وإباحة اللواط والسحاق. ولا ندري كيف يستوثق إنسان من وقوع الأمر الأخير، لكي يتخذ إجراء قانونيا أيّا كانت شرعيته الدينية أو الإرهابية؟ وإذا ارتضى مواطن لنفسه سلوكا شخصيا لا يضرّ أحدا، فلماذا الهوس بإشهار سلاح التكفير، واستعداء البسطاء؟

لا يخشى الأسوياء من ملايين المسلمين في أوروبا أوهام الأخطار الإلحادية والعلمانية، وتظل الشكوى هناك من صعود الهوس اليميني الكاره لمن وما هو إسلامي. وكما تقتصر أنشطة الجن، في مقاسمة البشر طعامهم ونساءهم، على المسلمين في العالم العربي، فلا تنمو للإلحاد والعلمانية شرور إلا في هذه الجغرافيا البائسة، الأرض الخصبة لإنبات السراب. ولا أثر على الأقليات المسلمة في أوروبا من فيض مظاهر الإلحاد والعلمانية، ولكنهما في ديار الإسلام مصدر الكوارث على أغلبية ساحقة منسحقة من المسلمين، بدليل إعلان مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، في مارس 2019، عن إنشاء وحدة اسمها «بيان»، لمواجهة الإلحاد والفكر اللاديني، «وتحليل الشبهات والرد عليها بأسلوب علمي شرعي، والتأصيل لثقافة دينية ترتكز على الفهم الصحيح ونشر الوعي بين أطياف المجتمع لاسيما الشباب، ومدّ جسور التواصل لبناء جيل يعي متطلبات وطنه وأمته، قادر على تحقيق آماله وطموحاته… وتأسيس منهج معرفي وتقوية المناعة الفكرية لدى الشباب للحد من الوقوع في براثن الإلحاد، كما تقدم (الوحدة) محتويات علمية تدعم هذه المعالجات من خلال الحملات الإلكترونية والإعلامية المشاهدة والمسموعة والمقروءة».

لا خوف على الإسلام، وعلى أيّ دين سماوي أو أرضي، من الإلحاد. حتى الإلحاد الانفعالي غير الوسطي، الذي يتبناه مراهقون يستهدفون الأديان بغباء، أتفه من أن يمس جوهر الدين أو يؤذي المؤمنين.

وليس بين الملحدين والعلمانيين دعاة إلى ازدراء أي دين، وتصفية معتنقيه، في حين انطلقت أغلب دعوات التحريض على الدم من رجال دين. باسم الدين أفتى عمر عبدالرحمن الأستاذ بجامعة الأزهر بكفر الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، واكتملت دائرة الشر باغتياله. وأباح أزهري آخر دم فرج فودة، ثم سوّغ الأزهري محمد الغزالي للقاتل أبوالعلا عبدربه جريمته، واستراح لإسهامه في إقامة «الحدود عند تعطيلها، وإن كان في هذا افتئات على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة». وبعد وصول الإخوان إلى الحكم أفرجوا عن عبدربه الذي رفض الاعتذار، وقال في التلفزيون إنه أقام الشرع، بعد تكفير «العلماء» لقتيل لم يكن القاتل بحاجة إلى استتابته، كما لم يُستتب شكري بلعيد الذي صدر أمام حشد سلفي تهديد بقتله، وتم تنفيذه في 6 فبراير 2013. وبعد قتل 46 شخصا وإصابة 125 في تفجير كنيستين في طنطا والإسكندرية في أحد السعف (9 أبريل 2017)، أفتى الأزهري يوسف القرضاوي رئيس ما يسمى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في قناة الجزيرة، بجواز تفجير المسلم لنفسه، «في حدود ما تريده الجماعة. تسلم نفسك للجماعة. والجماعة هي التي تصرّف الأفراد حسب حاجاتها».

الإيمان والإلحاد كلاهما ينتهي إلى شيء من راحة القلب والسلام النفسي والتصالح مع العالم، قبل الابتلاء في الآونة الأخيرة بملحدين مراهقين يستمرئون التباهي بالعداء للدين

في المجتمعات السوية لا يسأل إيطالي: هل اعتنق روبرتو باجيو البوذية؟ ولا يسأل أميركي عن ديانة رامي مالك، وأبو هذا الأميركي لم يشعر بهزيمة المسيحية حين تحوّل كاسيوس (محمد علي) كلاي إلى الإسلام. وفي عام 1946 لم تعلق الصحافة المصرية على إسلام ليلى مراد، ولم تتغير وتيرة حياتها وعلاقاتها المهنية والعائلية. والآن يجرؤ مشايخ منزوعو الذوق على القول «وجه المرأة مثل فرجها»، ويُرهبون ممثلة استغنت عن غطاء الرأس، وكانت تغطي شعرها بشعر مستعار. اغتيال معنوي يمارسه أوصياء على الدين استوت عقولهم النقلية في أكثر من 15 ألف معهد أزهري والعشرات من الجمعيات السلفية، في دولة تصنف الثانية عالميا في التحرش بالنساء.

لكي لا تبور بضاعة هذه الجيوش من الخريجين يخلق لهم طلب دائم، ولو في الإفتاء بتكفير المنتحر، فتقذفه ألسنتهم في النار، بجهالة لا تراعي مشاعر أهله وزملائه وأحبته. يبخل التجار برحمة الله، ويكفّرون الضحية، ويصمتون على إدانة السياق السياسي والاجتماعي الفاسد. في الحجاز الآن، تبور بضاعة مشايخ أفنوا أعمارهم جهادا في سبيل تحريم كروية الأرض.

12