الإعلام العربي.. قبل عقدين

شهد عقدا الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي انفتاحا إعلاميًّا واسعًا، وحركةً فنيةً كبيرة. ولعبت خلالهما وسائل إعلام عربية أدوارا معتبرة، وقدمت أعمالا مقروءة ومسموعة ومرئية هادفة وجريئة، تميزت بهامش محترم من حرية التعبير ما زالت آثاره باقية شاهدة على إنجازاته في بناء الإنسان فضلا عن البلدان.
نجحت تلك الوسائل بفضل قيادات إعلامية بارزة على مستوى الوطن العربي، تلاقت أهدافها مع رغبة بعض القيادات السياسية التي وَعت قيمة ومكانة الإعلام والفنون بكل تكويناتها، وآمنت بدورهما في تنمية الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية واستدامتها.
فكان لهما فضل القيام بتلك الأدوار، وتحقيقُ تلك المكتسبات للقطاع الإعلاميّ والعاملين فيه، تعزيزًا لقيمة الحرية، وعلوّ مكانتها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: مصر، والإمارات، والكويت ولبنان.
وبرز كتابٌ وإعلاميون لا تخطِئُهم العينُ، على امتدادِ عالمنا العربي، وتصدرت الصّحافة المشهد، بجانب ما قُدِّم من أعمالٍ فنيةٍ غير مسبوقةٍ عاليةِ الجودة، نصًّا وإخراجًا وتمثيلًا، شملت المسرح والسينما والدراما التلفزيونية، وتأثر بها العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
◙ الإعلام شريك رئيس في نهضة وتطوير المجتمعات، وسيبقى شاغلا لقياداته، ونخبه السياسية والفكرية، رغم كل التحديات التي تواجهه
وتعدُّ الإمارات نموذجًا رائدًا في الاهتمام بمجال الإعلام؛ فقد كان سعي قيادتها يستهدف بناء دولة حديثة متقدمة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأحد أعمدتها وفي مقدمة اهتماماتها الإعلام، كعامل أساسي ضمن عوامل أخرى مهمة في بناء مؤسسات الدولة.
وانطلاقا من هذه الحقيقة، كانت مرحلة التأسيس ليست كأي مرحلة، بل مرحلة استثنائية، تعود بنا إلى معرفة جزءٍ من تاريخ منطقتنا، وجهود قادتها، خاصة القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه؛ فقد كان يقود تلك المسيرة الإعلامية، ويضع لها النهج والمنهج.
قدّر، رحمه الله، دور الإعلام والإعلاميين، فحظيا بمتابعته الدائمة لهما، عبر منافذ كثيرة، وفي بلدان عربية عدة لما تحمله تصريحاته من رسائل وإضاءات، أبرزها حرصه على تحقيق المصالحات العربية، والدعوة الدائمة إلى التقارب وحل الخلافات.
وأفرزت صراحته المعهودة واقعًا إعلاميًّا مثاليًا يشار إليه بالبنان، ويعود إليه الفضل في ما وصلت إليه الإمارات من تطور كبير شهده قطاع الإعلام، وما حظي به من دعم الحريات والحقوق قبل أي دعم آخر، وبالتعبير الصادق عن مختلف قضاياه الوطنية والقومية.
وبرزت في الإمارات صحف مستقلة قوية، منها: الخليج، والوحدة، والوثبة، وصوت الأمة، والفجر، بجانب صحف رسمية، أبرزها: الاتحاد، والبيان، ومجلة الأزمنة العربية الأسبوعية المستقلة.
تمتعت هذه المؤسسات الصحافية بهامشٍ غيرِ مسبوقٍ من حرية التعبير واستقطبت كتابًا بارزين، وصحافيين من دولٍ عربيةٍ وخليجيةٍ بجانب أشقائهم الإماراتيين، الأمر الذي أعطى تلك الوسائل الإعلامية خبرات كبيرة؛ فحققت انطلاقة قوية.
وأفرزت تجربة مجلة الأزمنة العربية ظهور جيل رائد من الإعلاميين والكتاب المبدعين في الإمارات، مثل: الأخوين غانم، ود. محمد غباش، ود. عبدالله عبدالخالق، وعبدالحميد أحمد، وظبية خميس، وسلمى مطر سيف وآخرين، بجانب من قدمتهم وسائل الإعلام الأخرى، مستقلة وحكومية، من كوادر واعية، وإعلاميين بارزين، وحظيت تلك المطبوعات الوليدة بمتابعة وقبول معتبر لدى شرائح كبيرة من القراء والمهتمين
يروي الكاتب والصحافي والبرلماني المصري مصطفى شردي أن الشيخ زايد عارض في البداية وضع رسم لشراء صحيفة الاتحاد مؤكدا أنه في إطار حرصه على توفير التعليم والصحة وباقي الخدمات مجانا، فإنه يرغب في إيصال المطبوعة إلى الناس مجانا أيضا، لأنها لا تقل أهمية من وجهة نظر الشيخ زايد، إلا أن ما قدمه شردي من حجج بشأن أهمية الرسم للصحيفة، جعله يوافق مضطرا.
◙ لا غنى لأي دولة عن الإعلام والفنون بكل تكويناتها إذا أرادت تحقيق ازدهارها ونهضتها، ولن يتحقق ذلك إلا بإعطائهما هامشًا معتبرًا من حرية الرأي والتعبير
وفي مصر، على سبيل المثال، شهد عام 1979 نقلة كبيرة في مسيرة الصحافة تمثلت في موافقة المواطنين، في استفتاء شعبي، على نص دستوري يقضي بأن تكون الصحافة “سلطة رابعة” بجانب السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، الأمر الذي اعتبر خطوة مهمة في تاريخ الصحافة وقتئذ. كما صدرت العديد من الصحف الجديدة، قومية أو حزبية أو خاصة، فضلا عن عشرات من الصحف العربية والأجنبية التي تطبع وتوزع في مصر كل صباح.
إن وسائل الإعلام والقطاعات الثقافية ومؤسسات الإنتاج والإبداع ودور النشر والكتّاب والإعلاميين والعاملين بهذه القطاعات جزءٌ من نسيج الدول ونهضتها، ومكملٌ لها كقوةٍ ناعمةٍ لا غنى لأيّ مجتمع فاعل عنها، لكونها أحدَ الأجنحةِ بل أهمها على الإطلاقِ.
ولن تؤدي وظائفها بنجاح إلا إذا تمتعت بالحرية وبدون رقابة مسبقة ومباشرة عليها، إلا ما يمليه واجبها المهني، وضميرها الوطني، ووعيها بتحديات هذه المرحلة محليا وإقليميا وعالميا، والتزامها بإعلاء المصالح العليا للوطن والأمة، وإصرارها على المشاركة في البناء والتوعية والتنوير.
إنّ تغيّر حال الإعلام العربي في الوقت الحالي عمّا كان عليه قبل عقود، يجعلك ترى، في كثير من الأحيان، مشهدًا لا يسرّ صديقا، لكنّه يُفرح حاسدا.
ترى العجب العُجاب، وتصابُ بغصةٍ وعذاب، لما يعتري بعض وسائل إعلام اليوم من تحدٍ صادمٍ لعقولِ الناس، وخداع سياسيّ، وابتزاز أخلاقيّ ومهنيّ، وصلَ إلى حدّ السبّ والقذفِ العلنيّ البعيدِ عن قواعدِ وسلوكياتِ المهنةِ، دعك من تراجع مساحة النقد الذي عرفته وسائل الإعلام، المحكوم بضوابط المهنة والأخلاق حول قضايا سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ أو اجتماعيةٍ، في صالح الحكومات قبل الشعوب.
إنّ تبني هذا النوع من الإعلام رسميا والسعي الدائم لإخضاعه يُبعده عن أخص أهدافه، ويُضعف تأثيره؛ فللإعلام وظائف محورية أبرزها: حماية وحدة المجتمع، وتعظيم الانتماء الوطني لدى الناشئة، ولعب دور “الدبلوماسية غير الرسمية” بين الدول في أوقات كثيرة، خاصة الأزمات. وهذه الوظائف الإعلامية المهمة تصبح محل اختبار إذا لم تكن حرية التعبير العنوان الرئيس للعمل الإعلامي، وأحد عوامل نجاحاته.
إن غياب، أو تغييب، الأدوار المحورية لوسائل الإعلام يترك انعكاسات سلبية على الجانبين الرسمي والشعبي، ويضفي شرعية حقيقية إلى إعلام الوسائط “المنفلت” و”المتحرر” بمزاعمه وشعاراته، الأمر الذي يؤثر بالناس، خاصة الشباب، ويدفعهم للتكيف معه.
إن إعلامنا العربي يواجه تحديا كبيرا على مسارين متوازيين:
الأول: حماية وسائل الإعلام التقليدية بتعزيز حرية التعبير، وتلبية احتياجات جمهورها من مختلف فئات المجتمع، الذي تابعها بشغف كبير على مدار العقود الماضية، وما زال يرتبط بها ويتمسك باستمرار مسيرتها، ولا يقبل بأي حال أن ينصرف عنها، لدورها المهم في حياته إعلامًا وتثقيفًا وتعليمًا وتنويرًا وترفيهًا.
الثاني: العمل على التفاعل الجاد مع وسائل الإعلام الجديد التي أعادت رسم خارطة العمل الإعلامي، بما تحمله من سمات، أبرزها: عالمية الانتشار، وسرعة الوصول، والتفاعل، وتعدد الوسائط، وقلة التكلفة.
◙ كتابٌ وإعلاميون لا تخطِئُهم العينُ برزوا، على امتدادِ عالمنا العربي، وتصدرت الصّحافة المشهد، بجانب ما قُدِّم من أعمالٍ فنيةٍ غير مسبوقةٍ عاليةِ الجودة
ولا بد من مراعاة آثار وسائل الإعلام الجديد على مجالات: حرية النشر والتعبير، وتدعيم الفكر الديمقراطي، وحقوق الإنسان، وغيرها من المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يتنافى مع أي توجه للحد من تأثير الإعلام.
ولم يعد هناك مجال على الإطلاق لاستمرار نظرة التجاهل إلى وسائل الإعلام الجديد، أو التقليل من أهميتها، أو اعتبارها – خطأ – ظاهرة مؤقتة، بعد الدور الذي لعبته الشبكات الاجتماعية في الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة العربية منذ بداية عام 2011.
وعلينا أن نعي أيضا حقيقة أن الإعلام شريك رئيس في نهضة وتطوير المجتمعات، وسيبقى شاغلا لقياداته، ونخبه السياسية والفكرية، رغم كل التحديات التي تواجهه والعمل للخروج به من حالة التراجع والضعف التي أصبح عليها، ليشمل، بجانب الإعلام، السياسة والاقتصاد والثقافة والفنون.
بات الحديث مرتبطا بما يجري حولنا من تحولات وتغيرات تمس أمن الوطن العربي ومستقبله، فهو جزء من منظومة متكاملة تشكّل منطلقا لحداثة أصيلة، وتؤصّل لهوية ثقافية وحضارية لمنطقتنا العربية.
ولا غنى لأي دولة عن الإعلام والفنون بكل تكويناتها إذا أرادت تحقيق ازدهارها ونهضتها، ولن يتحقق ذلك إلا بإعطائهما هامشًا معتبرًا من حرية الرأي والتعبير، وتقديم أعمال صحافية وفنية مقدرة من الجماهير، ومعبرة عن قضاياهم وآمالهم.