الإذاعات المصرية الموجهة إلى أفريقيا ضرورة سياسية تجاهلتها الحكومة لسنوات

الإعلام خسر معاركه في القارة السمراء بسبب نقص التمويل وقلة الكفاءات.
الأربعاء 2020/11/18
تبادل الزيارات بين الإذاعيين لا يكفي لصناعة التأثير في أفريقيا

خسرت القاهرة صراع النفوذ الإعلامي في القارة الأفريقية، بسبب إهمالها الإذاعات المصرية، التي كانت تحظى بجمهور كبير في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والآن مع التطورات السياسية، تدرك السلطات المصرية ضرورة استعادة أذرعها الإعلامية في أفريقيا، إلا أنها بحاجة إلى حل مشكلات نقص التمويل وضعف الكوادر الإعلامية.

القاهرة -  تراجع الحكومة المصرية سياستها الإعلامية تجاه القارة الأفريقية بعد ارتفاع فاتورة إهمال القوة الناعمة وما تسبب به من تأثيرات سلبية على مصالحها في ظل المستجدات الإقليمية، خصوصا مع تنامي دور الإعلام المضاد في القارة السمراء.

وبدأت الهيئة الوطنية للإعلام، المسؤولة عن إدارة الإعلام المصري، التعامل مع التطورات عبر عقد شراكات مع إذاعات محلية في أفريقيا لعرض البرامج المصرية.

وانطلق البث المباشر للبرامج الإذاعية المصرية مؤخرا باللغة السواحيلية إلى منطقة شرق ووسط أفريقيا من بوجمبورا عاصمة بوروندي، بالاشتراك مع “راديو ثقافي” ثاني إذاعة خاصة هناك، وتغطي عدة دول، هي: الكونغو الديمقراطية ورواندا وتنزانيا، إضافة إلى بوروندي، كما يمكن استقبالها عبر الإنترنت.

وخسرت القاهرة صراع النفوذ الإعلامي في القارة الأفريقية الذي وضع جميع غلاته في سلة الإذاعات الموجهة التي دشنتها الحكومة في خمسينات وستينات القرن الماضي، واستطاعت في حينه أن تجذب المستمعين إليها، لكنها ما زالت تعيش على الأطلال وخفت صوتها ومردودها، ولم يعد لها الحضور المطلوب وسط عدد هائل من وسائل الإعلام الأجنبية والعربية التي تستهدف الدول الأفريقية.

مسؤولون عن إدارة الإذاعة يشكون من عدم وجود تواصل مع الجهات الدبلوماسية المصرية في أفريقيا للتفاهم على التغطية الإعلامية

وقال عضو الهيئة الوطنية للإعلام سابقا جمال الشاعر، “إن مجاراة الإمكانيات الهائلة المتوفرة في الإذاعات الأجنبية بأفريقيا ليس ممكنا مع الميزانية الشحيحة للإذاعة، ما يجعل التحرك باتجاه الاهتمام الرقمي هو الحل الوحيد، بحيث تكون هناك منصات مصرية موجهة تقدم خدمات إذاعية وتلفزيونية عبر الإنترنت”.

وتابع “لكن ذلك أيضا يواجه مشكلة بسبب عدم وجود خبرات تستطيع التعامل مع التطورات التكنولوجية الحديثة، ولديها قدرة التعرف على احتياجات السوق الإعلامية في أفريقيا”.

وأوضح لـ”العرب”، أن الإذاعة المصرية بوجه عام بحاجة إلى إعادة هيكلة البنية التكنولوجية داخلها بما يضمن وصولها إلى الخارج، فالتشويش بات سمة أساسية لغالبيتها وأدى ذلك إلى عزوف المشاهدين عنها، ما يتطلب إعادة سريعة لتأهيل المراسلين الذين لا تتماشى قدراتهم الراهنة مع التطورات الحالية، أو البحث عن عناصر جديدة يكون لديها تأثير في الشارع المحلي لتلك الدول.

وظلت الإذاعات الموجهة على مدار سنوات طويلة دون تطوير، واستمرت على الموجات القصيرة والمتوسطة التي تصل منها فترات زمنية محددة على مدار اليوم لا تتجاوز الأربع ساعات، ولا تستطيع النفاذ إلى الجمهور المحلي في ظل انتشار إذاعات عديدة على موجات “أف.أم” التي تعمل على مدار اليوم.

ووقفت مشكلات التمويل التي تحتاجها عملية تغيير الموجات الترددية إلى جانب عدم وجود إدارة إعلامية تستطيع أن تتعامل مع التطورات، حائلا أمام التغيير، مع تركيز المسؤولين على إحداث تطوير شكلي على مستوى التلفزيون المحلي الذي يخاطب الداخل على حساب الأذرع الإعلامية في الخارج، التي تبحث عن جمهور أسهم في صناعة العصر الذهبي للإذاعة خلال عقود ماضية.

لدى اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) 35 إذاعة موجهة لدول غرب وجنوب أفريقيا، وبعض دول أوروبا والأميركتين، ويصل مداها إلى 51 دولة على مستوى العالم، لكن تبقى الإذاعات الموجهة نحو أفريقيا، والبالغ عددها 10 إذاعات وتضم لهجات محلية، الأكثر أهمية في ظل سعي القاهرة لتحسين صورتها.

جمال الشاعر: مجاراة الإمكانيات الهائلة في الإذاعات الأجنبية بأفريقيا ليس ممكنا مع الميزانية الشحيحة للإذاعة
جمال الشاعر: مجاراة الإمكانيات الهائلة في الإذاعات الأجنبية بأفريقيا ليس ممكنا مع الميزانية الشحيحة للإذاعة

ولم تستطع هذه الإذاعات أن تخترق المجتمع الإثيوبي مثلا لتدافع عن حقوق مصر التاريخية في نهر النيل، وفشلت في توصيل صورة مخالفة عن تلك التي بثتها إذاعات وقنوات قطرية وتركية تتمتع بحضور قوي في أفريقيا، وأضحى الإعلام المصري وكأنه يخاطب نفسه في كثير من الأزمات مع دول في القارة.

واستخدم الإعلام الموجه نحو أفريقيا أساليب عفا عليها الزمن، وما زالت وزارة الإعلام تنظم دورات تدريبية يشارك فيها العشرات من الإعلاميين من بلدان القارة سنويا، منذ تدشين مركز تدريب الإعلاميين الأفارقة قبل 40 عاما، والاستعانة بمبعوثي الأزهر للعمل كمراسلين في الإذاعات الموجهة، ما ينعكس سلبا على الرسالة التي يطغى عليها الجانب التقليدي بعيدا عن استخدام أدوات الإعلام الحديث.

وتتعاقد الإذاعة المصرية مع 100 مذيع ومراسل أجنبي من خريجي الأزهر يحصلون على مبالغ ضئيلة، وتخرج الرسالة الإعلامية ضعيفة وغير احترافية، إلى جانب أن العديد من خبراء الإعلام يرون أن عدم وجود مسؤولين مصريين في تلك البلدان يحددون الخطوط العريضة للسياسة الإعلامية أدى إلى ضعف تأثيرها.

وتعمل الشبكات المصرية بنظام الموجات القصيرة وغالبية الآلات التي تتماشى مع تلك الموجات بحاجة إلى صيانة وتغيير لضمان وصولها إلى البلدان التي تستهدفها في ظل وجود مشكلات هندسية، وغالبا ما تكون سببا في تعطيل بث العديد من البرامج، وعدم توافر ميزانيات لإنتاج برامج جديدة ما يجعل الاعتماد قائما على برامج قديمة لا تتماشى مع طبيعة الرسالة الإعلامية التي من المفترض تقديمها حاليا.

ولا يزال المذياع الأقل كلفة والأكثر قدرة على الوصول إلى الشعوب الأفريقية، لكن خلال السنوات العشر الماضية تقلص حجم التواصل بين الإذاعات المصرية وبين الجمهور الذي كان يبعث رسائله لطلب برامج بعينها أو المساعدة في مشكلات داخلية تخصه، ما يفرض الحاجة للبحث عن أدوات تتماشى مع احتياجاته الإعلامية.

وتملك الإذاعة المصرية مكتبة هائلة من البرامج جرى بثها في سنوات ماضية، وهناك المئات من التسجيلات مع زعماء التحرر في أفريقيا أجراها مصريون وآخرون من جنسيات مختلفة، ومحتويات ثقافية ودينية كانت إحدى وسائل القوة الناعمة لمصر في أفريقيا.

ويقول خبراء إنه يصعب الاعتماد على تلك المحتويات التي لا تتناسب مع الفترة الراهنة، فالرسائل الإعلامية الداعمة للتحرر الوطني ليس لها مكان حاليا، ومن الضروري التركيز على الأوجه التنموية والانخراط في العوامل التي تشكل خطرا على القارة.

ويشكو كثير من المسؤولين عن إدارة الإذاعة من عدم وجود تواصل بينهم والجهات الدبلوماسية المصرية في أفريقيا للتفاهم على طبيعة التحديات وكيفية معالجتها إعلاميا.

ويبدو أن هناك قناعة بأن هذه الوسيلة لن تؤدي إلى شيء في ظل استمرار عملها بالطريقة الحالية، لأن هناك قنوات ومنصات فرنسية وبريطانية وصينية استطاعت أن تهيمن على مناطق النفوذ الإعلامي في القارة.

وانعكس التقوقع المصري على الأزمات الداخلية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك على الدور الذي تلعبه تلك الإذاعات، وأصدر وزير الإعلام الأسبق ممدوح البلتاجي في العام 2006، قرارا بغلق عدد من الإذاعات وتقليص فترة بث البعض الآخر وتقليص عدد ساعات الإذاعات الموجهة إلى أفريقيا من 61 ساعة أسبوعيا إلى 20 ساعة فقط بذريعة ترشيد النفقات.

إهمال صرح إعلامي مصري في القارة الأفريقية
إهمال صرح إعلامي مصري في القارة الأفريقية