الأوركسترا صورة طبق الأصل من المجتمع البشري

بدأت شهرة الكاتب الألماني باتريك زوسكيند، مؤلف الرواية الشهيرة “العطر”، بمنودراما كتبها بعنوان “الكونترباص” حيث تم بُثها أولاً تمثيلية إذاعية، وإثر ذلك وجدت طريقها إلى خشبة أحد مسارح ميونخ، قبل أن تصدر في كتاب عام 1984. وأخيرا صدرت في نسختها العربية في أول ترجمة لها.
منذ الثمانينات ومسرحية “الكونترباص” لباتريك زوسكيند المكتوبة لممثل واحد تحقق نجاحا لافتا. بل يمكن القول إنه ليس هناك مسرح في ألمانيا لم يقدم هذه المونودراما في أحد مواسمه، مما جعلها من أكثر النصوص المسرحية التي مثلت في ألمانيا على الإطلاق.
يقول سمير جريس في مقدمته لترجمة المسرحية الصادرة عن دار المدى “عندما شاهدت ‘الكونترباص’ لأول مرة في أحد مسارح مدينة كولونيا الألمانية في أواخر التسعينات، فُتنتُ بهذا النص، وخرجت مبهورا من المسرح. قرأت نص المسرحية وزاد افتتاني بزوسكيند ونصه، ثم استعدت الكونترباص ككتاب مسموع، وعلى الفور قررت أن أترجم هذا النص الرائع. وبالفعل، صدرت ترجمتي ـ وهي الترجمة العربية الأولى ـ في عام 2005 في المشروع القومي للترجمة بالقاهرة”.
يلفت جريس إلى أنه ترجم المسرحية بـ”مزاج رائق”، لعشقه للموسيقى الكلاسيكية من ناحية، ولافتتانه بالنص من ناحية أخرى.
باتريك زوسكيند يجمع في أعماله بين المعلومات الغزيرة التي ينثرها في ثنايا عمله واللغة المحمّلة بالرموز والإيحاءات
ويضيف أن “زوسكيند يمثل ظاهرة فريدة بين الكتاب الألمان، فهو لم ينشر سوى أعمال قليلة تُحصى على أصابع اليد الواحدة، إلا أنها حققت شهرة عالمية مذهلة، لاسيما مسرحيته هذه ‘الكونترباص’ (1980)، وروايته الوحيدة ‘العطر’ (1985). بعد ذلك انتظر القراء طويلا أن يكتب زوسكيند مسرحية جديدة، أو رواية أخرى يواصل بها نجاحه العالمي، لكنه خيب آمال قرائه، ولم ينشر إلا قصصا طويلة وقصيرة، من أشهرها ‘الحمامة’ و’هوس العمق’، وفي السنوات الأخيرة نُشرت له عدة مقالات وتأملات. تساءل كثيرون عندئذ: ماذا يفعل هذا الكاتب منذ التسعينات وحتى اليوم؟ كيف يقضي يومه؟ بأي شيء يشغل نفسه؟ ماذا يقرأ؟ وهل ما زال يكتب؟ ولماذا توقف هذا ‘الطفل المعجزة’ ـ مثلما أطلق عليه البعض ـ عن الكتابة؟”.
ويوضح جريس أن زوسكيند في مستهل “الكونترباص” نشاهد رجلا في منتصف العقد الرابع، يجلس وحيدا في غرفة ذات جدران عازلة للصوت، تكاد تخلو من كل شيء إلا من آلة الكونترباص الضخمة الحجم، العميقة الصوت؛ هي رفيقته في السراء والضراء. يحبها وينطقها بالعزف البارع، ويفتخر بدورها في الأوركسترا، “فبدوننا لا تستطيع أي أوركسترا أن تعزف شيئا”. لكن هذا الاعتزاز الشديد بآلته الموسيقية، يقابله كره دفين لها، لأنها في نظره أصل كل بلاء في حياته. إنها هي التي تجعله يجلس وراءها في الصف السادس أو السابع من الأوركسترا، لا يكاد يشعر به أو بعزفه أحد.
عازف في الظل
على العكس من الآلات الأصغر حجما، كالكمان مثلا، أو الأعلى صوتا، مثل الطبل الكبير. هذه الآلة تجبره على أن يعيش في الظل. يعلم العازف أنه لن يقف أبدا في دائرة الضوء عازفا منفردا، فلم يحدث أن ألف بيتهوفن أو موتسارت أو تشايكوفسكي، أو أي موسيقار مشهور، مقطوعة منفردة للكونترباص. لذلك يجد العازف نفسه مجبرا على العمل مع الأوركسترا، جالسا في الخلف، ومن مكانه يصب جام غضبه وإحباطات حياته على كل الناس، ونحو كافة الاتجاهات: إنه يلعن المايسترو والحفلات الموسيقية والعازفين النجوم وكبار المؤلفين الموسيقيين لاسيما ريشارد فاغنر، الموسيقار الأثير لدى هتلر.
يرى أن هذه الآلة أضحت كاللعنة التي لا تفارقه حتى عندما ينفرد بعشيقة. عزف الكونترباص هو نوع من القدر الذي يحني العازف أمامه جبهته. يقول بطل المونودراما إنه من بين ثمانية عازفي كونتراباص ليس هناك واحد لم يتجرع كؤوس الذل والهوان، وليس هناك عازف لا نجد آثار لكمات القدر مطبوعة على وجهه. إنه يرى نفسه ضحية العائلة والظروف والمجتمع. ومع تنامي شعور العازف بالتفاهة – في الحياة كما في الأوركسترا ـ يقع فريسة لجنون الاضطهاد، ويتخيل أن العالم كله يترصده.
لا يتبقى له إلا الحلم بتحقيق شيء هائل لافت للأنظار، ليقف ولو مرة واحدة في دائرة الضوء.
وبالرغم من أن موضوع المسرحية “غربي”، إذ يتطلب من المخرج ومن الجمهور معرفة جيدة بالتراث الموسيقي الكلاسيكي، إلا أنها قادرة على مخاطبة الإنسان في كل مكان، لأن “عازف” زوسكيند ينجح في إفهامنا أن مشاكله الشخصية والمهنية في الأوركسترا هي صورة لمشاكلنا نحن، فالأوركسترا بترتيبها الهرمي، وكما يقول العازف الذي يجهل المشاهد اسمه هي “صورة طبق الأصل من المجتمع البشري”.
المشهور المجهول
حول سر نجاح زوسكيند يشير جريس أن أعمال زوسكيند تتسم بسمات مميزة، كما تتسم كتاباته بنكهة خاصة جداً. زوسكيند يجمع في أعماله بين المعلومات الغزيرة التي ينثرها في ثنايا عمله واللغة المحملة بالرموز والإيحاءات، وبين الأسلوب التشويقي المسلي والعالم الغرائبي لاسيما في روايته “العطر”.
إنه يوازن بين طموحه الأدبي وبين النجاح الذي يبتغيه لدى الجمهور العريض، وهو ما تحقق له بصورة خاصة في “الكونترباص” وفي “العطر”. في ثنايا أعماله ينثر زوسكيند معلومات مدروسة جيدا؛ في “الكونترباص” عن الموسيقى الكلاسيكية وتطور الأوركسترا وأعمال مشاهير الموسيقيين، وفي “العطر” عن الروائح وفرنسا القرن الثامن عشر. يفعل زوسكيند ذلك دون إثقال على القارئ ودون إملاله، ودون أن يتحول العمل الأدبي إلى ساحة لاستعراض معلومات المؤلف النظرية الجافة.
رجل في منتصف العقد الرابع بلا اسم يعزف على الكونترباص لكنه يبقى بلا شهرة ولا أضواء
ويرى أن زوسكيند يبتعد كذلك ـ ربما عمداً ـ عن الموضوعات التي تتماس مع السيرة الذاتية وهمومها وشكاواها، على النقيض من القسم الأعظم من كُتّاب ألمانيا وقت ظهور أعمال زوسكيند، كما أن أعماله تتناول موضوعات إنسانية عامة، يمكن أن تحدث في أي دولة، أوروبية أو غير أوروبية؛ بينما لا يمكن تخيل أحداث “طبل الصفيح” لغونتر غراس ـ مثلا ـ إلا في ألمانيا، وهو ما ينطبق على أعمال كبار الروائيين الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، مثل هاينريش بُل في روايته “آراء مهرج”، وأوفه يونسون في رباعيته المشهورة “أيام عام”، وزيغفريد لنتس في رواية “حصة اللغة الألمانية”، وكريستا فولف في “السماء المقسمة” و”نموذج طفولة”. ويلفت جريس إلى سمة أخرى تميز زوسكيند، وهي “ابتعاده التام عن التدخل في الحياة العامة أو في السياسة، وعدم سماحه لأحد بأن يتدخل في حياته، لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتى من أجل الدعاية لأدبه.
لا أحد يعرف أين يسكن الكاتب. من يريد أن يراسله، عليه أن يكتب لدار النشر السويسرية. زوسكيند مشهور ومجهول في آن واحد. لا يعرف القراء سوى صورتين لهذا الكاتب الأسطورة، ومنهما يستشف المرء ملامح إنسان خجول زائغ النظرة، إنسان يريد ألا يزعجه أحد أو أن يفسد عليه خلوته. ومثلما ينفر زوسكيند من الناس، فإنه يرفض الجوائز الأدبية – وهل هو بحاجة إليها؟.