الأنغام تهاجر قبل أصحابها أحيانا

أيام قرطاج الموسيقية في نسخته الأخيرة والمعدلة لم يعد مجرد تجميع للعروض والمشاركين بطريقة عشوائية غير مدروسة، بل أصبح عبارة عن ورشات عمل واضحة الأهداف في طرق الإنتاج الموسيقي والتسويق عبر اللقاءات المثمرة بين شباب المناطق العربية والأفريقية والمتوسطية.
كلمة "أيام" التي ابتدعها الأب المؤسس لمهرجان قرطاج السينمائي الطاهر شريعة عام 1966، كان يُقصد من خلفها تعويض “مهرجان” بمفردة أكثر عمقا ودلالة على التنوّع والانفتاح نحو البعدين العربي والأفريقي على وجه الخصوص، فكانت كلمة “أيام” وما تعنيه من شاعرية وحنين.
توالى تأسيس المهرجانات التابعة لوزارة الثقافة التونسية في ما بعد، والنسج على نفس المنوال فكانت أيام قرطاج للفنون المسرحية والتشكيلية والشعرية والحركية وغيرها في نوع من الرتابة والتكرار لكلمة “أيام” التي أوشكت أن تفقد معناها الجوهري، لكن “أيام قرطاج الموسيقية” جاءت على نفس المقام المتعلق بالحنين والتذكّر والذهاب نحو الآخر كأرقى أشكال الاحتفاء بالإنسان في حله وترحاله.
كونية الموسيقى

تزامن أيام قرطاج الموسيقية مع اليوم العالمي للمهاجر يجعل من الفن حمّال رسائل بعيدا عن التسلية الجوفاء
بالفعل، وعلى مسرح الجهات في مدينة الثقافة بالعاصمة تونس، تجلّى هذا البعد الكوني للموسيقى عبر الأصوات القادمة من أفريقيا من خلال مجموعة “إيقاعات أفريقية” التي تجمع عازفين بعضهم تونسي وبعضهم مهاجر، تزامنا مع اليوم العالمي للمهاجرين، وما يحمله من دلالات.
المراكب المتهالكة التي تهرّب البشر إلى الضفة الأخرى من المتوسط، تهرّب الأنغام أيضا مع أصحابها، وقد تغرق معهم أو تصل معهم منهكة وتائهة.. وقد تتقاذفها الأمواج فتصل دون أصحابها.
تونس كانت ولا تزال عبر محوري التاريخ والجغرافيا، معبرا وهدفا ومنطلقا للموسيقى المهاجرة في صدور وحناجر أصحابها، منذ موشحات الأندلس بعد سقوط غرناطة، إلى يومنا هذا الذي يقصدها فيه فنانون من ضفتي المتوسط ليحتفوا بالموسيقى كأول وآخر لغات التخاطب بين البشر.
شتاء تونس كان دافئا ليلة افتتاح أيام قرطاج الموسيقية بإيقاعات أفريقية مفعمة بالحماسة والفرح وتبعث برسائل إيجابية عن الحياة والاختلاف والتسامح، بعد غيابها في السنة الماضية بسبب جائحة كورونا.
ومن الجدير ذكره أن هذه التظاهرة الموسيقية الوازنة على المستوى العربي والمتوسطي والأفريقي، قد عادت في دورة جديدة بفلسفة مغايرة تهدف إلى النهوض بالإنتاج الموسيقي وبدورها في التغيير والتوعية بقضايا المجتمعات. ويذكر أن البدايات كانت قد انطلقت من عملية تشكيل لجنة تفكير سنة 2009 متكونة من موسيقيين ومثقفين للنظر في كيفية إعادة تأهيل مهرجان الأغنية (من 1986 إلى 2004) الذي تحوّل إلى مهرجان الموسيقى التونسية (من 2005 إلى 2008).
وقد أقرّت اللجنة إحداث أيام قرطاج الموسيقية لتمثل تظاهرة مرجعية في مجال الموسيقى على غرار أيام قرطاج المسرحية وأيام قرطاج السينمائية. وانعقدت الدورة الأولى لأيام قرطاج الموسيقية من الثامن عشر إلى الرابع والعشرين من ديسمبر 2010.
لم تنعقد الأيام لمدة أربع سنوات، لتلتئم الدورة الثانية من الرابع عشر إلى الحادي والعشرين من مارس 2015 مُسجلة تغييرا جوهريا في أركان المهرجان الذي استبدل مسابقة الأغنية بمسابقة مشاريع العروض الموسيقية وأسّس لصالون الصناعات الموسيقية وانفتح على العالمين العربي والأفريقي. وقد كان الهدف من ذلك إنشاء ”سوق” موسيقية جنوب متوسطية تجمع العديد من الفاعلين والمتدخلين في القطاع الموسيقي في تونس وخارجها.
اللافت أن هذه الدورة قد استقام عودها، وحادت عن “المراهقة التنظيمية” المتمثلة في تجميع العروض كيفما اتفق، وتكريس حالات اللهاث خلف الجوائز والامتيازات التي من شأنها أن تخدم المنطق التجاري، بل التفتت إلى تخصيص فُسحَة رائقة “يتعزّز فيها التواصل بين المهنيين والفنانين إفادة وإثراء للتجارب النموذجيّة والإنتاجات الهادفة، من خلال ما سيوفره المهرجان من عروض حية ورقمية توظّف فيها أحدث التقنيات الصوتية والبصرية”، وفق ما جاء في كلمة وزيرة الثقافة التونسية حياة قطاطة القرمازي، عبر الفيديو، في حفل الافتتاح.
ووعدت إدارة المهرجان بأن تكون هذه الأيام حاضنة للمواهب والمبدعين وفرصة لتمكين الفنانين التونسيين والأفارقة والعرب من تصدير إنتاجاتهم، دوليا، بطريقة أفضل وآفاق أرحب بعد أن عاشت “حالة موت سريري”.
بعيدا عن البهرجة

الفارق الواضح بين أيام قرطاج الموسيقية ونظيراتها من التظاهرات العربية، هو أنها لا تسعى للبهرجة والتسويق الإعلامي عبر تجميع الوجوه قبل الأصوات، ولا تكتفي بالحفلات التي يتمايل معها الجمهور ثم يغادر القاعات و”تبقى دار لقمان على حالها” بل تسعى وبكل جدية لخطة إنتاجية تعتمد خارطة طريق لخروج موسيقى المنطقة من أزماتها المتمثلة في الموسمية والعشوائية والمحسوبية.
والالتزام بقضايا أساسية تمسّ الإنسان في جذوره مثل مسألة الهجرة التي تمحورت عنها هذه الدورة، يعدّ أمرا بالغ الثراء والحساسية، على اعتبار أن الموسيقى حالة تفاعل دائم، وتمثل في حد ذاتها شكلا من أشكال الهجرة المحمودة والإيجابية من حيث سلميتها وروحها الاندماجية بعيدا عن حالات التعصب والانغلاق والتطرف.
وانطلاقا من هذا المعطى يمكن الحديث عن السفارة أو “الدبلوماسية الموسيقية” كقوّة ناعمة قادرة على مدّ الجسور والتأثير الإيجابي كما تشهد عليه نماذج شهيرة في التاريخ الحديث والمعاصر مثل المغني الأرميني الفرنسي شارل أزنافور، الذي ولد من أسرة هاربة من القمع التركي في عشرينات القرن الماضي، والأمثلة كثيرة في الأغنية المتوسطية والأفريقية، وكذلك العربية داخل المنطقة التي عرفت النزاعات والحروب الطائفية، لكن الموسيقيين ظلوا رسل محبة وسلام.
ربط هذه الاحتفالية الموسيقية وتزامنها مع اليوم العالمي للمهاجر يحمل في طياته معاني كثيرة ودلالات عميقة تجعل من الفن حمّال رسائل ذات جدوى ومنفعة بدل أن يكون مجرد تسلية عمياء وعديمة الهدف، وتزيد هذا الجيل تضليلا على تضليل.